مذ كان في الرابعة عشر من عمره شارك في تظاهرات المدينة، جنباً إلى جنب مع المناضلين الحقيقيّين وأصحاب القضايا الوطنيّة والإنسانيّة. وفي تظاهرة الإستقلال اللّبناني، كان الرافعي في الصفوف الأماميّة من تلك التظاهرة الحاشدة. وشارك في تظاهرات عديدة، مذ كان تلميذاً يافعاً، ضدّ الفرنسيّين الذين سحلت دبّاباتهم متظاهرين من تلاميذ المدارس وطلّابها، الذين كانوا يشاركون مع زميلهم الطالب عبد المجيد في تظاهرة احتجاجيّة… دمُ أحد هؤلاء الطلّاب الشهداء تتطاير في كلّ مكان، و”تعطّرت” ثياب عبد المجيد وغيره من الطلّاب المتظاهرين، بدم زميلهم الفتى الصغير! عبد المجيد الرافعي كان يذكر دائماً ذلك اليوم الرهيب بأسىً وحزن… ولكن بفخر المناضل الذي لا تهتزّ عزائمه.
لقد عَرِفَت (الحكيم) أسواقُ المدينة العتيقة الضيّقة والبيوت الشعبيّة الفقيرة… وشهدت “بيوت التنك” التي كانت تزنّر طرابلس و(ما تزال) زيارات ليليّة ل”حكيم طرابلس” يتفقّد ويعالج ويطبّب مجّاناً ويقدّم الدواء مجّاناً أيضا… شكّل ظاهرةً في طرابلس ومحيطها، ظاهرة الإهتمام بالمرضى والمعوزين والفقراء، بينما كان باستطاعته، لو أراد، أن يكون طبيب “أغنياء المدينة” من البورجوازيّين وكبار القوم الذين هم أيضاً، تعلّقوا به ونظروا إليه نظرة الطبيب البارع القادر على تشخيص المرض بنجاح، والمساعدة في إنقاذ المرضى.
هو القدوة والمثال والمناضل الحقيقي في طرابلس وكلّ لبنان، فكيف لا يكون ممثّلاً لأهل المدينة للدفاع عن قضاياهم في المجلس النيابي وهو صاحب الدعوات المتكرّرة لإنماء طرابلس وإيجاد فرص العمل وتأمين الطبابة والتعليم والعيش الكريم لأهلها.
لم يكتفِ الرافعي خلال مسيرته الطبيّة والسياسيّة بتقديم الخدمات لمعالجة المرضى في المستشفيات وفي عيادته الطبيّة، بل أنشأ مع رفاقه في حزب البعث العربي الإشتراكي، خمس مستوصفات طبيّة قادرة على تغطية علاج كلّ المرضى والمحتاجين من أبناء طرابلس والشمال وتقديم الأدوية اللّازمة.
نداء الواجب
كانت سنوات الحرب اللّبنانيّة المشؤومة، مليئة بالمآسي والجراح والبطالة والعوز… لكنّ إبن طرابلس، الرجل المسؤول والممتلئ بالحيويّة والإنسانيّة والأخلاق والنضال، كان دائم الإستجابة لنداء الواجب الذي يدعوه لمساعدة أهله في مدينة “العلم والعلماء”، التي حوّلتها الحرب القذرة إلى مدينةٍ منكوبة.
وقد ساهم الرافعي، الطبيب الإنسانيّ الكبير، في إنجاز عدّة مسائل حيويّة تتعلّق بحاضر مدينته ومستقبلها. كان يهمّ نائب طرابلس و”حكيمها” الموثوق من كافّة الفئات الشعبيّة، أن يقوم بإنجازات تؤدّي أوّلاً، إلى إنقاذ المدينة ممّا تعانيه من عوزٍ واحتياجات ضروريّة للعيش. وثانياً، كان يعمل لإنجاز أمور أخرى تتعلّق بمستقبل المدينة وإخراجها من حال البطالة والحرمان وعدم إشراكها من قبل الدولة في عمليّة الإنماء المتوازن. لذلك قام بجملة خطوات إيجابيّة من شأنها أن تساعد أهل المدينة على الإطمئننان إلى مستقبلهم ومستقبل أولادهم.
– على صعيد التعليم في مدارس طرابلس، قدّم الرافعي دعماً للتلاميذ والطلّاب من كافّة الأعمار، عبر دعم الكتاب المدرسي وتسديد الأقساط المدرسيّة عن الطلّاب المحتاجين.
أمّا الطلّاب الجامعيّون ففتح لهم الدكتور عبد المجيد الطريق للتخصّص في كافّة المجالات بجامعات العراق، من الطبّ والصيدلة إلى العلوم السياسيّة والإعلام، وسواه من الإختصاصات المطلوبة. ودعم الرافعي سفر العديد من الطلاب إلى الخارج للتخصّص في الجامعات هناك. ولم يكتفي الرافعي بدعم الطلّاب فقط بل اهتمّ باليتامى وأنشأ لهم مركزاً خاصّاً يدعمه بكلّ ما تقتضيه المستلزمات الطبيّة والحياتيّة.
– على الصعيد المعيشي قدّم الرافعي مواد غذائيّة عبر شحناتٍ بالبواخر وصلت من بغداد إلى ميناء طرابلس، حيث تمّ توزيعها على المحتاجين. أمّا أفران طرابلس التي كانت تفتقر أحياناً إلى الطحين في سنوات الحرب فكان عبد المجيد الرافعي المنقذ الأوّل لها، حيث استحصل على الطحين من الخارج ووزّعه مجّانا على الأفران، كما أشرف أعضاءٌ من حزب البعث على توزيع الخبز مجّاناً.
– أدرك الرافعي أهميّة تطوير وتشغيل مرفأ طرابلس وأبدى اهتماماً كبيراً به، وجعله مرفأً متخصّصاً لشحن كافّة المواد من الخارج إلى العراق البلد الغني بنفطه ونشاطاته التجاريّة، فالسيارات والمعدّات الإلكترونيّة والأخشاب بآلاف الأطنان حملتها سفنٌ كبيرة وصغيرة إلى مرفأ طرابلس في الميناء، ونُقلت بشاحنات طرابلسيّة إلى بغداد برّاً، إلى أن قام النظام السوري بافتعال مشاكل لمنع وصول الشاحنات اللّبنانيّة إلى العراق عبر سوريا، الممرّ البرّي الوحيد الذي يصل لبنان بالعراق وباقي الدول العربيّة.
– لقد شكّل الدكتور عبد المجيد الرافعي ضمانة فعليّة لمدينته، كان شباب البعث خلال سنوات الحرب اللّبنانيّة، ومع غياب الدولة وأجهزتها الأمنيّة عن المدينة، يحمون مؤسّسات طرابلس وأهلها مسلمين ومسيحيّين من عبث العابثين… ولم يتعرّض مسيحيو طرابلس، خصوصاً في الميناء، إلى الإعتداءات وأعمال القتل والسحل إلّا بعد اضطرار البعثيّين للخروج من المدينة التي وقعت تحت سيطرة النظام السوري وعملائه من المندسّين والمخرّبين الذين عاثوا فساداً ونهباً وقتلاً بالكثيرين من أهل طرابلس، وكلّ الفئات والأحزاب والقوى والتنظيمات.
لم يكن عبد المجيد الرافعي يعمل لمعالجة أوضاع طرابلس الآنيّة، بل كان يتطلّع لإخراج مدينته الحبيبة المتروكة لقدرها، من واقعها المأساوي. واقع الإقطاع السياسي والعائلي وصولاً إلى الديمقراطيّة الحقيقيّة، ليكون أهل طرابلس قادرين على رفع رؤوسهم وأصواتهم عالياً. (طرابلس ليست مزرعة- لن ننتخب خشبة) هي بعض شعارات الستينات للرافعي الذي استطاع مدعوماً من أهل طرابلس بكلّ فئاتها الإجتماعيّة والدينيّة، من التصدّي للسلطة السياسيّة المهيمنة على قرار طرابلس، والرافضة لإعطاء هذه المدينة العريقة حقّها في العمل والإنماء والطبابة والتعلّم وسواها من بديهيات الحياة. كان الرافعي يهتمّ لمستقبل طرابلس والعمل على ازدهارها وإيجاد فرص عمل لأبنائها.
بعد تركه طرابلس بعدما دمّروا منزله العائلي والعديد من المستوصفات الطبيّة، واستشهد العديد من رفاق الرافعي الصامدين في مدينتهم وبين أهلهم دأب من منفاه الطوعي في بغداد، على دعم طرابلس بكلّ ما ملكت يداه وقدراته، وهي كثيرة في عراق العزّ والعروبة والمحبّة والأخوّة. من بغداد كان الرافعي يتابع أحوال مدينته طرابلس وكافّة الأمور المتعلّقة بها وهذا الأمر كان في أولويّات عمله ودوره ومهمّته تدعمه وتسانده في كلّ ذلك، زوجته ورفيقة عمره ودربه ونضاله السيّدة ليلى الرافعي.
محبّة أهل طرابلس وكلّ لبنان، هي التي صنعت مجد الدكتور عبد المجيد الرافعي الذي ناضل طيلة سنوات عمره من أجل تحقيق القضايا الإجتماعيّة وقيام الوحدة العربيّة. هو قائدٌ لا يتكرّر اليوم أكثر من أيّ يوم مضى. تفتقد طرابلس لحبيبها وراعيها، المناضل من أجل عزّتها، المدافع عن كرامتها، والحالم بمستقبلها المشرق، عبد المجيد الطيّب الرافعي.
الياسمينة على مدخل منزل الرافعي في أبي سمراء بطرابلس الفيحاء تشتاق إلى “الحكيم القائد”. لكنّ ليلى الرافعي ترعاها بحنان. والياسمينة ستبقى خضراء وبيضاء، تنبض بالمستقبل الناصع الذي شاءه وعمل من أجله “حكيم طرابلس” الإنسان الذي ضحّى وعمل من أجل مستقبل طرابلس ولبنان.
في كل الظروف والمراحل يبقى عبدالمجيد الرافعي القائدُ الشاهد على القيادة التي تجمعُ بين النضال القومي في سائر عواصم العرب وبين النضال الشعبي في مدينته طرابلس.
طرابلس التي تستذكره هذه الأيام وهي تُلملِمُ جراح نسيانها، بلا دولة للرعاية وبلا نصابٍ للقيادة.
طرابلس التي لم تضطر خلال تاريخها المجيد أن تختارَ بين العنف الذي يحمي حقوقَ أبنائها وبين العنف الذي يُدمِّرُ معالمها ومؤسساتها.