الآن وقد اقترب الدولار من عشرة آلاف ليرة (بدل 1500) انقلبت حركة الحياة رأساً على عقب، كما حدث في مصر وسوريا والعراق بعد التأميم. وخلال حروبه أوائل هذا القرن اضطر العراق إلى طبع ورقة المليون دينار. وخلال حرب يوغوسلافيا في الفترة نفسها طبعت ورقة المليار دينار. والسبب دائماً أنه لم يعد في إمكان الناس أن تحمل أكياس العملة لشراء حاجيات بسيطة كالشاي والقهوة.
بعد الحرب العالمية الأولى أصبح ثمن دزينة البيض في النمسا 4 مليارات كرون. أي ثمن شقة في برلين. وبسبب هبوط العملة أصبح كل مستأجر في النمسا ساكناً بالمجان طوال عشر سنوات، بينما افتقر الملاكون. ويحدث هذا في لبنان الآن، للمقترضين بالليرة اللبنانية. أو للمستأجرين أيضاً.
قبل عزلة «كورونا»، كنا نلتقي، مجموعة أصدقاء وأنا، على غداء أسبوعي. واكتشفنا أن صاحب المطعم المسكين يغير لائحة الطعام كل يوم مع ارتفاع الدولار. ثم سمعنا أن مطاعم كثيرة أغلقت أبوابها لأنها لم تعد قادرة على مجاراة لعبة التضخم وتبدل الأسعار.
كما في أوروبا، خلال وبعد الحربين، افتقر كثيرون واغتنى قلائل. وقد عُرف هؤلاء في أنحاء العالم بلقب «أثرياء»، أي الكواسر الذين يمتصون دماء الضعفاء فقط. لن ينجو أحد من معاناة ما. كل ما يأتي من الخارج أصبح عبئاً: الجريدة والكتاب، والدواء، والمعجنات، والسيارة وقطع الغيار، وغيرها من الضرورات. ولا أعتقد أن أحداً بدل سيارته في العامين الماضيين. والأكثرية الكبرى من معارض السيارات أغلقت أبوابها متكبدة خسائر لا تعوض.
حيث تتشابه الأسباب تتشابه النتائج. مثل أوروبا بين الحربين، قل الالتزام بالمعايير الأخلاقية على أصعدة كثيرة، وازداد الغش وفاض الكذب السياسي، وضمرت، أو اختفت، النشاطات «الكمالية» كالإنتاج الثقافي والمسرحي والفنون ومعارض الكتب السنوية. وزاد في أظافر المحنة انتشار الوباء واستفحاله لسبب غياب الدولة التي لا وجود لها في الأساس. وتلك هي المحنة الكبرى منذ زمن. وإذا وجدت الدولة، فلكي يقاتل أهلها بعضهم البعض، انقضاضاً بلا هوادة. وكان من الممكن القول دعهم ينتحرون، ففي ذلك إنقاذ للبنان، لكن المشكلة أنهم ينحرون لبنان معهم”.