عوده عن الحكام اللبنانيين: لا يرحمون لبنان ولا يريدون رحمة الله عليه

7 فبراير 2021
عوده عن الحكام اللبنانيين: لا يرحمون لبنان ولا يريدون رحمة الله عليه

 

 ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.

بعد الإنجيل المقدس، ألقى عظة قال فيها: “نسمع في إنجيل اليوم مثل الوزنات، المثل الذي أخبرنا إياه الرب، وجعلنا، من خلاله، نفكر بشكل حسي أكثر بالدينونة الآتية. الوزنات التي يتحدث عنها النص هي النعم والمواهب التي يمنحها الله لأحبائه البشر. يقول كاتب المزامير: كلام الرب كلام نقي، فضة صهرت في بوتقة من تراب، وصفيت سبع مرات (12: 6)، أي إن أثمن ما يمكننا الحصول عليه هو كلام الرب ووصاياه التي، إن حفظناها، يمنحنا التنعم بالخيرات الأبدية. ولكي نحفظ الوصايا ونتنعم بالحياة الأبدية، علينا أن نحافظ على ما وهبنا إياه الرب من المواهب والعطايا. والمحافظة لا تعني عدم استخدامها، بل تعني تثميرها وخدمة أخينا الإنسان من خلالها. نحن نفهم أن المواهب لم توزع بالتساوي، لأن كل واحد يختلف بإدراكه وذكائه عن الآخر. فأشخاص منحهم رب العمل وزناتهم، فتوجه بعضهم فورا إلى العمل لتثميرها، بلا مماطلة، فظهروا مؤهلين لإتمام عمل الله، أما المرتهنون للخوف والكسل فكانت آخرتهم بشعة في الظلمة البرانية“.

أضاف: “في بعض الأحيان، يحسد البشر إخوتهم لأنهم، بنظرهم، يتمتعون بمواهب ونعم كثيرة، وينسون أن الله أعطاهم وزناتهم الخاصة التي، إن عملوا على تثميرها، ما وجدوا وقتا لا للحسد ولا للنميمة، ولكانوا أعضاء أكثر فعالية في المجتمع والكنيسة. يقول القديس غريغوريوس الكبير: الذي أخذ الوزنة الواحدة، مضى وحفر في الأرض وطمر مال سيده. إن طمر وزنة في الأرض يعني توظيف قدرات المرء في شؤون أرضية، والإخفاق في التماس الربح الروحي، وارتباط القلب بالأفكار الأرضية. هذا ما يقوم به كثيرون، يمتلكون الفهم والموهبة، لكنهم يوظفون وزنتهم في الشر، على حسب ما يقول النبي إرمياء: هم ماهرون بالشر، ولا دراية لهم بالخير (4: 22). المسيحي الحق يقيم حراسة على قلبه، ويعمل بما منحه إياه الله، ولا ينظر إلى الآخرين، وهكذا لا يظهر من فاعلي الشر عندما يأتي السيد ليدين كل إنسان حسب أفعاله“.وتابع: “إذا أخذنا مثلا المعلمة في المدرسة، والتلاميذ، نفهم شيئا من مثل الوزنات. بشريا، الله خص المعلمة بموهبة التعليم، لكن التلاميذ لا يتعلمون جميعا بالمستوى نفسه، إذ منهم من يجتهد ويتقدم علما وفهما، ومنهم من يقف عند صوت المعلمة أو شكلها فيلقي باللوم على هذا الأمر ويقول إنه رسب لأن صوتها أزعجه. ألم يقم صاحب الوزنة الواحدة بالأمر نفسه؟ ألم يلق باللوم على طباع سيده حتى يجد حجة لكسله؟ أيضا، ثمة من يمتلك الوزنة لكنه يخبئها لنفسه فقط، ولا يريد أن يستفيد منها سواه، على مثال رب عمل، لا يعلم أحدا صنعته التي تربحه الأموال الطائلة، فيموت وتندثر الموهبة عبثا. المسيحي الحق يعلم الآخرين ما يعرفه، موصلا إياهم إلى مستوى معرفته، فيربحهم ويجعلهم شركاء له في ما يملك. المسيحي لا يكون مسيحيا إذا أقفل على البشارة ولم ينشرها. عليه أن يشارك المسيح مع الجميع حتى يجعلهم يمتلكون المسيح في كيانهم. صاحب الوزنة الواحدة اتهم سيده بأنه يحصد من حيث لم يزرع. كل صاحب شركة لديه موظفون يعملون، لكنه هو من يحصد الأرباح، وهكذا يكونون هم زرعوا وهو حصد. نحن كلنا فعلة في حقل الرب، مخلوقون على صورته ومثاله، إن زرعنا خيرا، يحصد الرب تسبيحا وتمجيدا لاسمه، أما إذا كان زرعنا سيئا أو كنا أشرارا، فيحصد تجديفا عليه بسببنا. بسببنا يمجد خالقنا أو يجدف عليه، وطوبى لمن يكون من الفعلة الأخيار“.وقال: “إن إعطاء الوزنات للصيارفة يعني معرفة نشر البشارة لمن هو قادر على ممارستها. من له موهبة الوعظ والتعليم فإن موهبته تكون لمنفعة الآخرين، ومن لا يستعملها يفقدها، أما من يستعملها باجتهاد فينال فيضا من العطايا، والكسول يفقد ما قد ناله. الله يعطينا موهبة معرفة نشر البشارة ومعرفة زرع الصليب في القلوب. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: ما من شيء محبب لدى الله أكثر من أن نعيش للمصلحة العامة… والمتقاعس عن عمل الخير سيعاقب. يأخذنا كلام القديس يوحنا إلى التفكير في حال لبناننا الحبيب“.وسأل: “هل في بلدنا، بين المسؤولين، من يعمل للمصلحة العامة؟ لا نرى أمامنا سوى متقاعسين في المحبة، ومستميتين في القهر والتنكيل ونشر البؤس واليأس. الوباء متفش بين الشعب، لكن مرضا خبيثا آخر يفتك به، يدعى الأنا، أنا الحكام التي تتحكم بمصير شعب ورزقه وحياته وصحته. الشعب جائع، لكن التشبث بالرأي والتعلق بالمصلحة ونشر البيانات والبيانات المضادة أهم بالنسبة إلى حكامنا من إشباع البطون الخاوية. الموت طال معظم بيوت وطننا إما بسبب كارثة 4 آب أو بسبب الجائحة أو الفقر والعوز، لكن مسؤولينا منشغلون بأنفسهم يعيثون فسادا وحقدا. اللبنانيون مقهورون، والحكام همهم الحصص والمكاسب والثلث المعطل، ألا يكفي تعطيل تشكيل الحكومة، وتعطيل حركة البلد وشلها؟ كم بيت يجب أن يهدم بعد؟ كم شاب أو شابة يجب أن يهاجرا بعد؟ كم جريمة يجب أن تقترف بعد؟ كم من الوقت المهدور أو الفرص المهدورة أو كم مواطن ينتحر أو كم طفل يقهر يلزمنا بعد لتحرك ضمائر المسؤولين وتدفعهم إلى عمل إنقاذي سريع؟ لبنان جريح وليس من يضمد جراحه لأن حكامه لا يريدون القيام بأي شيء لنجدته. هم لا يرحمون لبنان ولا يريدون رحمة الله عليه، لأن تعنتهم يمنع أي مساعدة خارجية له“.أضاف: “ستة أشهر مرت على كارثة 4 آب والحقيقة لم تنجل بعد. إنفجار هز العالم ولم يحرك ضمائر المسؤولين، وما زال ذوو الضحايا المفجوعون بفقدان أحبائهم ينتظرون معرفة الحقيقة، وما زالت بيروت مدينة يسكنها الموت، أحياؤها مدمرة، وشوارعها قد هجرها أهلها والحياة. إلى متى التقاعس واللامبالاة؟ ستة أشهر مرت وما زلنا بلا حكومة توصل الليل بالنهار عملا وكدا من أجل إنقاذ ما تبقى من لبنان. والمسؤولون يقاومون كل الدعوات العقلانية في الداخل وفي الخارج من أجل تخطي المصالح وتشكيل حكومة قادرة على القيام بخطوات إصلاحية حقيقية تنتشل البلد من مصيبته. أين الضمير؟ أين الرحمة؟ سلمكم الرب وزنة واحدة هي قيادة هذا البلد. ماذا فعلتم بها؟ لقد طمرتموها وخنقتموها. كيف ستواجهون ربكم يوم الدينونة، وقد لا يكون بعيدا لأن الجائحة تحالفت معكم على زرع الموت“.وتابع: “الرئيس، أي رئيس، والمسؤول، أي مسؤول هو للوطن لا لجزء منه. على الرئيس أن يكون أكبر من الرئاسة، يغنيها بأخلاقه وحكمته وثقافته ونزاهته وأمانته، ولا يستغلها من أجل مصلحته الخاصة أو مصلحة طائفته أو عشيرته أو حزبه أو عائلته. كذلك المسؤول، أي مسؤول، هو خادم للوطن يبذل قصارى جهده من أجل القيام بواجبه بنزاهة وأمانة وتضحية، متخطيا مصالحه وعلاقاته وارتباطاته، لا يستغل مركزه من أجل جني الأرباح أو تحقيق المكاسب أو التشفي والإنتقام. أين نحن من هذا؟ أليس حري بنا التحسر على أيام مضت عرف لبنان خلالها رجالات ضحوا بأموالهم وحياتهم من أجل لبنان؟ أما نحن، فبعد إغتيال العاصمة ها نحن نشهد سلسلة اغتيالات كان آخرها منذ يومين. لم إسكات الناس؟ لم كم الأفواه؟ وهل إخماد الأصوات الحرة يطفئ جذوة الحرية ويخنق صرخات الناس؟ ليس بالقتل وإسكات المفكرين وقادة الرأي تتم الغلبة. الغدر دليل ضعف. واجهوا الآخر بالفكر، قارعوا الحجة بالحجة. إن حرية الرأي حق كفله الدستور، والحوار أفضل طريق للاقناع. قدرنا في هذا البلد الإلتقاء والحوار، وقبول الآخر بداية الطريق. لبنان الكرامة والحرية والتنوع يرفض كم الأفواه وكبت الحرية، ويصعب تكبيله بسلاسل الجهل والتقوقع والانعزال. لبنان المدافع عن حقوق الإنسان، هل يجوز أن يخسر فيه مواطنوه حقوقهم؟ وهل يرتضي لبنان الذي ساهم في وضع شرعة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن تنتهك حقوق الإنسان فيه، وحريته وكرامته وحياته؟وقال: “المطلوب كشف القاتل ومحاكمته، وكشف حقيقة جريمة المرفأ وكافة الجرائم، ومصارحة الشعب. إن التمادي في التغاضي عن مرتكبي الجرائم، والإفلات من العقاب نتيجة غياب التحقيقات الشفافة والجدية، بالإضافة إلى تفلت السلاح، سبب ما وصلنا إليه من فوضى وتسيب وانهيار. فلكي لا يقال إن الطبقة الحاكمة تحمي الفاسدين والمجرمين، المطلوب عمل سريع وجدي. توقيف فاسد واحد أو مجرم واحد يكفي لردع من تسول له نفسه الإخلال بالقانون أو ارتكاب جريمة. العالم ينعتنا بالدولة الفاشلة، المفلسة، المشلولة وغير الفعالة، الدولة التي فقدت شرعيتها وثقة شعبها. ولبنان الذي كان المدافع الأول عن قضايا العرب في أروقة الأمم المتحدة، والناطق باسمهم، بات دولة معزولة يستجدي عطف العرب والعالم. ألم يحن الوقت لكسر الطوق الذي يكبل المسؤولين ويمنعهم عن القيام بواجبهم؟ ألم يصح ضميرهم بعد؟ ألم يلاحظوا غضب الشعب العارم؟ ألم يشعروا بعد بضيق الشعب وفقره وألمه؟ ألم يحن الوقت لتحل الجرأة في نفوسهم؟ والجرأة تتجاوز كل ضعف وخوف. الخوف المقيت هو أن يصبح اللبناني عبدا، والعبودية ذل. المطلوب من اللبناني أن يدافع عن حق الوطن وحق أبنائه“.وختم عوده: “مثل الوزنات يدعونا إلى العمل الجدي، مهما كان شاقا، لأن التخاذل والكسل واللامبالاة أمور تودي بصاحبها، وبجميع من حوله، إلى الهاوية“.