مرحلة “حكم” جبران باسيل رئيس “التيّار الوطني الحر” من خلال عمّه رئيس الجمهوريّة ميشال عون تُواجه حاليّاً مُساءلة لم تصل إلى درجة المحاسبة النهائيّة بعد في أوساط الجهات السياسيّة المسيحيّة المُتنوّعة والمُتعاون بعضها مع “حزب الله” والمُتبنّي بعضها الآخر سياسات مُناقضة لممارساته “المُستقوية” على اللبنانيّين الآخرين في الداخل، ولانخراطه في مواجهة إقليميّة عسكريّة صعبة ومُكلفة إلى جانب إيران في سوريا والعراق واليمن و”فلسطين” كما في العالم.
السؤال الأوّل الذي يُطرح خلال جلسات المُساءلة هو: ما هي سياسة باسيل في ضوء ممارساته ونشاطه السياسي الذي بدأه فعليّاً بعد عودة عون من المنفى، وتحديداً بعد تفاهم “التيّار” الذي أسّسه مع “حزب الله” في 6 شباط 2006؟ الجواب الذي يكاد أن يُجمع عليه المشاركون في الجلسات هو: سياسة رفض كل شيء لا انطلاقاً من مصلحة الوطن والكيان والدولة أو المسيحيّين ودورهم فيها، وإنّما انطلاقاً من شهوة إلى السلطة ومكاسبها السياسيّة وغير السياسيّة لا يمكن إشباعها بالمناصب النيابيّة والوزاريّة التي شغلها وحدها، بل بالمنصب الأوّل في البلاد أي رئاسة الجمهوريّة.
طبعاً هذه الشهوة إلى كلِّ شيء كانت ولا تزال جزءاً من شخصيّته، لكنّ استفحالها وتحوّلها هاجساً يوميّاً عنده ما كان ممكناً لو لم يُنتخب عمّه مؤسِّس “التيّار الوطني الحر” عون رئيساً للجمهوريّة، ولو لم يصطفيه وحده من دون سائر العونيّين الذين شاركوا المؤسِّس “النضال” من أقرباء وأنسباء ومواطنين آمنوا به منذ وصوله إلى السلطة لأوّل مرّة رئيساً لحكومة انتقاليّة عسكريَّة بتراء عام 1988، لتوريثه “تيّاره” السياسي وبعد ذلك رئاسة الدولة. وقد اعتمد عون وباسيل للنجاح في ذلك على الحليف “حزب الله”. لكن يبدو أنّ حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر حتّى الآن، وهو لن ينطبق على الأرجح لأسباب عدّة صارت معروفة كليّاً أو جزئيّاً.
يُتابع المشاركون في جلسات المُساءلة أو بالأحرى التساؤل، فيقولون أنّ جبران صار وحيداً جرّاء ممارساته السياسيّة ومواقفه وأخطائه وطموحاته القصوى. إذ لا تقف في صفِّه دولة عربيّة واحدة ربّما باستثناء سوريا الأسد. لكنّها لم تعُد دولة سيّدة وموحّدة وصاحبة دورٍ إقليمي وخصوصاً لبناني يُحسب له حساب في المجتمع الدولي، رغم “انتصاراتها” العسكريّة التي مهّدت لها إيران الإسلاميّة وابنها “حزب الله” اللبناني ثمّ الميليشيات الشيعيّة العربيّة وغير العربيّة، والتي كرّستها روسيا بوتين بتدخُّل عسكريٍّ حاسم بعدما عجز هؤلاء كلُّهم وبعد سنتين من القتال الشرس عن منع انهيارها. ولا تقف معه دولة إقليميّة غير عربيّة واحدة باستثناء إيران المذكورة. لكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ إيران وقفت وستقف دائماً مع “حزب الله” حليف باسيل وعمّه، وإلى أنّها ستتخلّى عنهما إذا “حادا عن الخط” السياسي والعسكري الذي تقوده في لبنان والمنطقة، أو إذا انغمسا مباشرة أو على نحوٍ غير مباشر في اتصالات وربّما تواطؤات مع أعدائها في المنطقة والعالم من أجل إشباع شهوة الأوّل إلى أعلى هرم السلطة في لبنان. علماً أنّ لدولة إقليميّة أخرى مُهمّة بقدر إيران دوراً تدخّليّاً في الساحة اللبنانيّة، وهي موجودة عليها بواسطة لبنانيّين لا يكنّون الودَّ لباسيل وحليفه “حزب الله” ولمؤسّس الأخير إيران الإسلاميّة، وذلك لأسباب مذهبيّة ظاهراً ومصلحيّة ضمناً. هذه الدولة هي تركيا. وعلماً أيضاً أنّ ليس لباسيل نصيراً أو مُتعاطفاً بين كبار العالم ومنهم روسيا والصين اللّتان يظنُّ “أبناء” إيران في المنطقة أنّهما معها مئة في المئة. كما منهم أميركا ودول أوروبيّة أبرزها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها.
يُضيف المتسائلون ثالثاً أنّ في مرحلة تحالف “التيّار الوطني الحر” مع “حزب الله” كان باسيل مُعتمداً على جهة واحدة لتحقيق هدفه الرئاسي وذلك بإلغاء أو شطب الجهات المسيحيّة المُعارضة له سياسيّاً ونائباً ووزيراً ورئيساً لعدم الثقة به في السياسة ولتناقض مصالحها مع مصالحه. هذه الجهة هي “حزب الله” وكان تحديداً مُعتمداً على التوقيع الدستوري الأوّل في البلاد أي توقيع عمّه الرئيس ميشال عون. وقد يكون هذا الاعتماد الشيء الوحيد المُشترك، أو هكذا صار، بين “الحزب” وباسيل وذلك نظراً إلى حاجتهما إلى بعضهما. يُتابع هؤلاء فيقولان رابعاً أن اللعبة الطائفيّة انتهت رغم احتدامها وخصوصاً بعد تحوّلها مذهبيّة.
فاللبنانيّون جائعون وصاروا فقراء جرّاء الانهيار الاقتصاديّ والمالي والمصرفي والنقدي وفساد طبقاتهم السياسيّة كلّها، وجرّاء كونهم وفي معظمهم أدوات لهذا الفساد. ودافعهم الكسب الماديّ والمواقع والوظائف. أمّا الدافع الأهمّ فهو المذاهب والطوائف التي تزعم الطبقات المُشار إليها أنّها تُدافع عن المُنتمين إليها. في حال كهذه يقول المُتسائلون: ضعوا أنفسكم مكان “حزب الله” وفي حال كهذه ماذا تفعلون؟ ثمّ يُجيبون أنّ تحالفه و”التيّار” أو بالأحرى زواجهما الذي دام نحو 15 سنة انتهى لأسباب يُسأل عنها الطرفان. بعبارات أخرى كان تحالفهما تحالف الأقوى سياسيّاً وشعبيّاً في البيئة الشيعيّة والأقوى عسكريّاً من شعوب لبنان كلِّها ودولتها “الفاشلة” كما الأقوى سياسيّاً وشعبيّاً في البيئة المسيحيّة. إلّا أنّ هذا التحالف لم يعُد متكافئاً الآن.
فثنائيّة “الحزب” و”أمل” تُمثّل غالبيّة شيعيّة كبيرة لأسباب معظمها مذهبي، ومسيحيّة “التيّار” خفّت وهجاً وحجماً وتماسكاً. كما أنّ الثقة بين الطرفين لم تعُد كما كانت إذ مرّا باختبارات عدّة دفعت الأقوى في تفاهم “مار مخايل” إلى شكٍّ في حليفه مُعزّزٍ بمعلومات وقرائن. لكنّها لم تدفعه إلى قرار فرطه ربّما لأنّه لا يزال في حاجة إليه، وربّما لأنّه يُرتِّب أمور الداخل وينتظر تطوّرات الخارج ومنها.