هذا الأمر ما عاد قائماً، لأن “العروبة” الجريح لم تعد الخطر الداهم على هوية لبنان، بل – على العكس من ذلك – غدت عنصر تآلف وجمع للبنانيين في وجه مخطط هيمنة إيرانية مذهبية يهدّد استقلال لبنان وسيادته وتعدّديته وعلاقاته العربية. وبالفعل، جاء الحضور الغفير أمس – رغم التباعد الاجتماعي – في ساحة مقر البطريركية المارونية ببكركي (شمال شرقي بيروت) ليؤكد القلق المشترك على المصير المشترك. القلق من هوية دخيلة على النسيجين الإسلامي والمسيحي تفرضها سطوة السلاح… ومصالح طهران ومطامعها التوسعية في المنطقة.
يوم استعادة الدولة وتأكيد التعايش المهدد
كتب اياد ابو شقرا في “الشرق الاوسط”: محطات جميلة وعميقة المعاني برزت في خطبة البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي أمس، في يوم مشهود من تاريخ لبنان الحديث، وله ما له على مستوى المشرق العربي أيضاً.
عبارات أرقى من البلاغة اللفظية قالها البطريرك، مثل: “نريد قوة التوازن لا توازن القوى” و”وُلدنا لنعيش في مروج السلام الدائم لا ساحات القتال الدائم”. كذلك كان صريحاً ومباشراً في دفاعه عن الوفاق والشراكة والتدويل، عندما قال إن “اتفاق الطائف” لم ينفذ بكامله، وهو اتفاق وقّع برعاية “عربية ودولية”.
الرسالة واضحة لأن الخطر واضح… ومصدر الخطر معروف. ولئن كان الكلام يصيب في الصميم لبنان، الصغير والمتنوع والمحتل «تدويلياً» بقوة السلاح، فهو يتسع أيضاً ليعني الخطر الإقليمي على كيانات المنطقة ودولها وتعايش مكوّناتها.
قبل عقود كان قطاع واسع من اللبنانيين يتردد في تقبل مفهومي “الحياد” و”التدويل” لسببين: الأول، أن بعض الداعين لـ”الحياد” كانوا رافضين لفكرة أن لبنان كيان عربي. والثاني، أن العامل الديني أو الطائفي (المسيحي، بالذات) كان محرّكاً أساسياً لمساعي الاستقواء بالقوى الدولية الأوروبية… ضد المشرق “الإسلامي”.
لهذا، كان أمس، يوم استعادة الدولة من الدويلة “التدويلية” الطابع، وإنقاذ الهوية من العاملين على تغييرها، وتأكيد الحد الأدنى من تعايش لم يسبق أن تهدّد في الصميم كما هو مهدّد حالياً.