وفيما خلص وزير الخارجية الفرنسي إلى أنّ “الأمر يعود الى السلطات اللبنانية للإمساك بمصير البلاد”، راميًا الكرة من جديد في ملعب السياسيّين أنفسهم، فإنّ تصريحه جان متزامنًا، وقبل ذلك متناغمًا، مع موقف مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، التي لم تكتفِ بـ”القلق”، وإنما دعت قادة لبنان إلى عدم تأخير تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات، تلبّي احتياجات البلاد المُلِحّة.
ولم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن جو “التأنيب” نفسه، حيث شدّد المتحدث باسم وزارة خارجيّتها نيد برايس على وجوب أن يضع القادة السياسيون في لبنان ما أسماها “مزايداتهم الفئوية” جانبًا، وأن يغيّروا سلوكهم، مختصرًا الأمر بعبارةٍ قد تكون جوهريّة، وهي أنّ على هؤلاء القادة “أن يعملوا في سبيل المصلحة العامة للبنانيّين”.
ماذا يعني الموقف الدوليّ؟
يحلو للكثير من اللبنانيين، وبعضهم يعيش “إنكارًا للواقع وانفصامًا كاملاً” عنه، أن يقلّلوا من شأن الدعوات الدولية المتكرّرة، باعتبارها “تدخّلاً فجًّا” في الشؤون الداخليّة، وهو ما ينسجم مع رفض شريحة واسعة من اللبنانيين الدعوات إلى “التدويل” باعتبارها “استدعاء للحرب”، ولو أنّ أيّ جهد داخليّ لا يُبذَل في المقابل، لتفادي مثل هذه التدخّلات.
لكن، أبعد من القراءة السياسية “المتحيّزة”، فإنّ الواقعية تقتضي مقاربة المواقف الدوليّة المكثّفة من منظارٍ آخر، يتقاطع عند حقيقة أنّ المجتمع الدولي لا يزال عند موقفه الذي أطلقه منذ بدايات الأزمة، وهو أنّ الكرة في ملعب القادة السياسيين في لبنان، وهم وحدهم يرسمون “مصير” اللبنانيين، فإما يأخذونهم نحو المجهول كما يفعلون، أو يشرعون بخريطة طريق “الإنقاذ” التي تمّ تبنّيها أصلاً خلال زيارتي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان.
وبناءً على ذلك، فإنّ الموقف الدولي شبه الموحَّد يعني أنّ كلّ الرهانات على أنّ دول العالم “لن تترك” لبنان، ولن تسمح بانهياره، قد لا تكون دقيقة، أقلّه في المرحلة الراهنة، وبانتظار متغيّرات إقليميّة ودوليّة قد لا يكون لدى لبنان المتّسع من الوقت للبناء عليها، وبالتالي فإنّ الموقف لا يزال نفسه: لا مساعدات قبل تشكيل حكومة لبنانية كاملة الصلاحيات، وشروعها في تطبيق الإصلاحات المتَّفَق عليها منذ فترة طويلة، وتحديدًا منذ مؤتمر سيدر الشهير.
كأنّها لم تكن!
لا تغيير إذًا في موقف المجتمع الدولي، وهو ما تثبته التصريحات التي تتكثّف بين الفينة والأخرى للمسؤولين الدوليين، الذين ما عاد التعبير عن “قلقهم” من الواقع اللبناني كافيًا للإشارة إلى صعوبة الظروف ودقّتها. لكن، كيف يتلقّف المسؤولون اللبنانيون مثل هذه الدعوات؟ وكيف يقرأون الرسائل “السلبيّة” الواضحة وغير المشفّرة من خلفها؟
باختصار، قد تكون الإجابة غير المطمئنة، أنّ معظم القادة السياسيّين يتجاهلون بكلّ بساطة، كلّ الدعوات الدوليّة، ويتعاملون معها “كأنّها لم تَكُن”، ويواصلون سياسة “المناورة والمماطلة” على خط تشكيل الحكومة، مع إفراغها من مضمونها، لأنّ الأهمّ، في منطقهم، هو “تكريس” بعض المكاسب الفئوية، ولو على حساب المصلحة اللبنانية العامة، وهو ما يتجلّى بوضوح لا لبس فيه من خلال التجاذبات المستمرة حول ثلث من هنا، وحقيبة من هناك.
وفيما يعتقد البعض أنّ الدعوات الدولية ينبغي أن تحثّ المعنيّين بتشكيل الحكومة على وقف سياسة الشروط والشروط المضادة، والإسراع بتأليف حكومة تكون قادرة على العمل والإنتاج، وبالتالي “متحرّرة” من “قبضة” الأحزاب، مباشرة أو مواربة، يستبعد آخرون أن يحدث أيّ تغيير، لأنّ ما يُراد “سياسيًا” من هذه الحكومة، التي يُعتقَد أنّها ستكون “الأخيرة” في “العهد”، يتفوّق على كلّ الاعتبارات والحسابات الأخرى.
يرى كثيرون أنّ “الوصفة” الوحيدة لتحرير الوضع اللبناني، والسماح بوصول المساعدات، تقضي بتلبية طلبات الخارج، من خلال تشكيل حكومة تحقّق الإصلاحات، مع ما يتطلبه ذلك من اختصاصيين غير حزبيّين. لكنّ هذه “الوصفة” تصطدم بواقعٍ لا يزال يصرّ على أنّ الأحزاب هي التي تسمّي الوزراء، لأنها من “ستمنح الثقة” للحكومة، وكأنّ لا أزمة ولا من يحزنون..