كتبت ميسم رزق في ” الاخبار” : كما جرت العادة، يجري توظيف كل ما يتعلق بسوريا، سياسياً. مادة اليوم، لمن يكنّون العداء لها، هي ترسيم الحدود البحرية معها، متهمين إياها بالسطو على مساحة 750 كيلومتراً. الأكيد أن لا سرقة لأي كيلومتر في البحر. كل ما في الأمر، بحسب مصادر الجيش اللبناني، أن لبنان وسوريا اعتمدا، كلٌّ منهما على حدة، تقنيات ترسيم مختلفة تستوجِب التفاوض رسمياً للوصول إلى خط مشترك.
قضية ترسيم الحدود مع سوريا ليسَت جديدة. الملف مفتوح منذ عام 2011، أي عند إصدار المرسوم 6433 الذي رسّم حدود لبنان البحرية الشمالية والجنوبية والغربية. يومَها جرَت مراسلة الدولة السورية من قبل وزارة الخارجية اللبنانية، بطلب من وزارة الطاقة (كانَ جبران باسيل حينها وزيراً للطاقة). واستمر تحريك الملف، خاصة مع إطلاق دورة التراخيص للتنقيب عن النفط. لكن، الملف نامَ في الأدراج، بسبب التطورات الأمنية والعسكرية والسياسية في سوريا، وتذرّع لبنان بحجة النأي بالنفس لقطع العلاقات معها.
أُهمِل الملف على أهميته. ولم يستفِق أحد عليه، إلا عندما صدّقت رئاسة الجمهورية العربية السورية في الأسبوع الأول من شهر آذار 2021، على العقد الموقّع بينَ وزارة النفط والثروة المعدنية السورية وشركة «كابيتال» الروسية للتنقيب عن البترول في البلوك الرقم 1 (السوري) في محاذاة الحدود مع لبنان.
وعليه، بدأ التحرك داخِل لبنان، بحسب ما علمت «الأخبار»، من أجل تجميع كل المستندات السابقة واللازمة للحديث مع الحكومة السورية. أكثر من مصدر وزاري أكدوا أن «جميع المراسلات والكتب السابقة ستُستعاد من أرشيف الوزارات المعنية، وسترُسَل إلى الحكومة التي عليها أن تُقرر الإجراءات اللازمة».
وبينما اتهم بعض الجهات سوريا بأنها «صدّقت العقد من أجل دفع لبنان إلى التفاوض معها على غرار مع يفعله مع العدو الإسرائيلي، لفك عزلتها»، وأنها بالخط الذي طرحته «دخلت إلى الحدود اللبنانية مساحة ٧٥٠ كيلومتراً مربعاً»، ردّت مصادر في الجيش اللبناني بشكل تقني وعلمي بنفي الأمر، مشيرة إلى أن «سوريا، وكما كل دولة، طرحت خط الحد الأقصى، كما فعل لبنان الذي لم يتفاوض معها حين رسّم حدوده، وهذا أمر طبيعي».
وشرحت المصادر مسار القضية قائلة إنه في «عام ٢٠١١، قام لبنان بترسيم لحدوده البحرية الشمالية مع سوريا، والغربية مع قبرص، والجنوبية مع فلسطين، بشكل أحادي عن طريق المرسوم الرقم ٦٤٣٣ الذي تمّ إيداعه لدی الأمم المتّحدة، عملاً باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. وقد اعتمد لبنان تقنية خط الوسط البحت (أي خط متساوي الأبعاد) لترسيم حدوده البحرية الشمالية مع سوريا. وعام 2014 بعثَ السفير السوري لدی الأمم المتحدة برسالة اعتراضية علی الترسيم اللبناني، وجّهها الی الأمين العام للمنظّمة الدولية. واكتفی السفير بشار الجعفري في الكتاب (حصلت «الأخبار» على نسخة منه)، بالاعتراض علی الترسيم اللبناني، من دون الإفصاح عن مقاربة سورية لترسيم حدودها مع لبنان، بما في ذلك الإحداثيات الجغرافية للخط السوري».
وفي العامين 2007 و2010، أطلقت سوريا دورات تراخيص نفطية وغازية قسّمت بموجبها المناطق البحرية السورية الی ٣ بلوكات. وتمّ تعيين الحدّ الجنوبي للبلوك السوري الرقم 1، المُتاخم للمياه اللبنانية، عن طريق اتباع تقنية خط العرض «التي تتعارض مع تقنية خط الوسط التي كرّسها القانون والاجتهاد الدوليين واعتمدها لبنان» بحسب رأي المصادر.
وهنا يكمُن الخلاف، وهو خلاف تقني. ليس هناك لا سرقة ولا سطو ولا اعتداء على الحدود اللبنانية. لكن «بفعل اعتماد الدولتين لتقنيات ترسيم مختلفة، نشأت منطقة متنازع عليها مساحتها نحو ٧٥٠ كيلومتراً مربعاً، وتمتدّ علی البلوكين ١ و٢ اللبنانيين والبلوك ١ السوري». ولأن السلطات السورية وافقت علی تلزيم البلوك ١ السوري لشركة كابيتال الروسية، فإن هذا التلزيم يُحتّم على لبنان، بحسب المصادر:
أولاً، التواصل مع السلطات السورية والشركة الروسية للوقوف عند نيّاتهما بما يختص بالبلوك ١. فهل تطمح الی القيام بأعمال تنقيب في المنطقة المتنازع عليها من هذا البلوك أم ستبتعد عن هذه المنطقة عملاً بموجبات القانون الدولي الذي يمنع التنقيب الأحادي في المناطق البحرية المتنازع عليها؟
ثانياً، علی ضوء الجواب عن هذا السؤال، يمكن اللجوء الی توجيه رسالة اعتراض الی الجانب السوري، مباشرة أو من خلال الأمانة العامة للأمم المتحدة. وخطوة كهذه تعدّ ضرورية، لأن سكوت لبنان يمكن أن يُفسّر من قبل المجتمع الدولي حينها بأنه اعتراف ضمني بالسيادة السورية علی المنطقة المتنازع عليها.
وبمعزل عن الخطوتين، تبقی الخطوة الأهم والأكثر منطقية هي «القيام بعرض مفاوضات ترسيم علی الجانب السوري. فترسيم الحدود البحرية بين الجارتين والاتفاق علی خط بحري مشترك، من شأنه أن يحلّ جميع المشاكل وأن يزيد من جاذبية البلوكات النفطية اللبنانية الشمالية. كما من شأنه زيادة حصة الدولة اللبنانية من عائدات هذه الرقع، نظراً إلى انتفاء النزاع الحدودي والمخاطر الأمنية التي يسببها النزاع الحدودي والتي تؤثر سلباً علی الشركات النفطية المنقّبة».
وبطبيعة الحال، يجِب عدم التساهل مع الحدود البحرية الشمالية للبنان، وتجب متابعة هذا الملف بجدية ومهنية. لكن من الضروري جداً أن لا تحرف هذه القضية الأنظار عن ملف الحدود الجنوبية الذي هو أكثر ضرورة وإلحاحاً. فبموجِب العقد الموقّع بين سوريا وشركة كابيتال الروسية، لن تبدأ أعمال التنقيب في البلوك الرقم ١ السوري إلا بعد ٤ أعوام من الأعمال الاستكشافية. أما في الجنوب، فستبدأ شركة «إنرجين» اليونانية بأعمال الاستخراج من حقل «كاريش» في نهاية هذا العام، ما يعرّض موارد لبنان الغازية والنفطية لخطر السرقة، خاصة أن نصف هذا الحقل يقع في المياه اللبنانية بحسب الخط ٢٩ الذي يفاوض وفد لبنان علی أساسه.
وفيما يوجّه التركيز اليوم أوّلاً وأخيراً علی تعديل المرسوم الرقم ٦٤٣٣ وايداعه لدی الأمم المتحدة بغية تقوية الموقف اللبناني التفاوضي وعرقلة أعمال التنقيب الإسرائيلية في المنطقة الحدودية مع «فلسطين المحتلة»، والتي تمثّل خطراً كبيراً ووشيكاً علی موارد لبنان الغازية والنفطية، لا بدّ أيضاً من الضغط على الدولة اللبنانية من أجل الإسراع في إعادة فتح باب التواصل الرسمي مع سوريا لإنجاز هذا الملف، وعدم التذرع بأي حجج من قبيل أن حكومة تصريف الأعمال ليس لديها هذه الصلاحية، أو الخضوع لضغوطات من الخارج تمنع وصل ما انقطع بين الدولتين