لكن، ووفق قاعدة أن “ما كلّ ما يشتهيه المرء يدركه”، ومنطق أنّ “الرياح تجري بما لا تشتهي السفن”، جاءت الكلمة مخيّبة للآمال، من حيث أنّها خلت من أيّ إشارة قريبة أو بعيدة للملفّ الحكوميّ، لصالح التركيز المكثَّف، وربما المُبالَغ به، على موضوع التدقيق الجنائيّ، بوصفه البداية، بل المعركة الكُبرى، التي اعتبرها “أصعب من تحرير الأرض”.
وعلى أهمية وحساسيّة ملف التدقيق الجنائيّ، الذي يُعتبَر واحدًا من الإصلاحات التي يفترض بالحكومة المقبلة أن تضعها في سلّم أولوياتها، فإنّ الرئيس عون “تجاهل” بالمُطلَق موضوع تشكيل الحكومة، رغم أنّه يشكّل أساس الاهتمام الدوليّ للبنان، والجوهر الذي تُبنى عليه كلّ المبادرات التي لا تزال حتى اليوم تتعطّل عند أعتاب قصر بعبدا.
لماذا “تجاهل” عون ملفّ الحكومة؟
لم تغب المبادرة الفرنسيّة بالمُطلق عن كلمة الرئيس عون، ولكن من زاوية مختلفة هي زاوية التدقيق الجنائي، الذي يسعى لاقتناصه في سبيل إضافته إلى سجلّ ما سُمّيت بـ”إنجازات العهد”. فقد تعمّد عون الإشارة إلى أنّ سقوط هذا التدقيق يعني ضرب المبادرة الفرنسية، لأنّ من دونه لا مساعدات دولية ولا مؤتمر “سيدر” ولا دعم عربي وخليجي ولا صندوق دولي.
بيْد أنّ ما غاب عن “أطروحة الرئيس”، بحسب ما يقرأ بعض المتابعين، أنّه من دون حكومة أساسًا، لا شيء أيضًا من كلّ ذلك، بما فيه التدقيق الجنائيّ، ما يتطلّب من الرئيس، بادئ ذي بدء، تسليط كلّ جهوده واهتماماته على موضوع تشكيل الحكومة، عبر تسهيل التأليف بكلّ الوسائل المُتاحة، لا القفز فوق المسألة بكلّ بساطة، كما فعل، حتى أنّه عاد إلى نغمة “تفعيل” حكومة تصريف الأعمال، عبر الدعوة لعقد جلسة لها بعنوان التدقيق الجنائيّ.
ولعلّ الرسالة “الخفية” خلف موقف الرئيس “المتجاهل” لملفّ الحكومة، ما هو أبعد من البحث عن “إنجاز” عبر التدقيق الجنائي، بل يرتقي لمستوى “استشعار” عقوباتٍ جديدة على محيطين به، دفعته إلى اتخاذ “خطوة تصعيدية استباقيّة”، خصوصًا أنّ أوساطًا مطّلعة تؤكّد أنّ رئاسة الجمهورية باتت “في جوّ” مثل هذه العقوبات، التي دخل الفرنسيّون على خطّ التلويح بها، وبوتيرة أكثر من عالية، تمظهرت بوضوح في الساعات القليلة الماضية.
“تفويض مُطلَق” لباسيل!
لكن، ثمّة من يتحدّث عن “أبعاد” أخرى لقفز رئيس الجمهورية على ملف الحكومة، رغم استثنائيته وجوهريته في الصراع، ورغم أنّه يتقدّم في ميزان الدول الكبرى على ملفّ التدقيق الجنائيّ، بدليل أنّ كلّ البيانات الدولية شديدة اللهجة التي تصدّرت واجهة الاهتمام في الأيام الماضية تنطلق من وجوب تشكيل حكومة ذات مصداقية قادرة على تحقيق الإصلاحات، بوصفها الخطوة الأولى في خريطة طريق الإنقاذ، من دون أيّ مقدّمات أو ممهّدات.
من هذه “الأبعاد” مثلاً ما يتحدّث عنه مطّلعون على تفاصيل المفاوضات الحكوميّة من أنّ الرئيس عون منح “تفويضًا مُطلقًا” لرئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل لمتابعة النقاش، بدليل أنّ الحديث يدور في الساعات الماضية عن لقاء “ثنائيّ” لا بدّ منه بين باسيل والرئيس المكلَّف، برعاية فرنسيّة، بعدما أدرك الفرنسيّون قبل غيرهم أنّ الرئيس “سلّم” أمر الحكومة لصهره، وإن كانوا يرفضون الإقدام على أيّ خطوة لا تكون “مضمونة” مُسبَقًا، تفاديًا لأيّ فشل جديد سيُسجَّل “إخفاقًا” لهم ولمبادرتهم في لبنان.
إلا أنّ العارفين يؤكدون أنّ هذا “التكتيك” من شأنه أن “يشوّش” على الإيجابيّة الحكوميّة الأخيرة، ويعطّل كلّ الجهود المبذولة لتحقيق الخرق المُنتظر، ولا يسهّله بأيّ شكلٍ من الأشكال، ليس فقط لأنّ الرئيس المكلَّف يرفض التجاوب معه، بما يؤدّي إلى “تعويم” باسيل، ولكن قبل ذلك لكونه “مخالفًا” في الشكل والمضمون، للدستور الذي يحصر عمليّة تأليف الحكومة برئيس الحكومة المكلَّف، بالاتفاق مع رئيس الجمهورية، وحده دون أيّ شريك آخر.
يرى البعض أنّ كلمة رئيس الجمهورية، في ذروة الحراك الحكوميّ الحالي، لم تكن موفَّقة في الشكل والمضمون. فالحديث عن التدقيق الجنائي، على أهميته، لا يستقيم إذا ما تمّ إهمال الأساس والجوهر، وهو تشكيل الحكومة. ولعلّ الرسالة الأهمّ التي ينبغي على الفريق الرئاسيّ قبل غيره إدراكها، هي أنّ “تحصين” التدقيق الجنائي لن يتحقّق إلا بتشكيل الحكومة، وفق المواصفات المتفَق عليها دوليًا، ومن دونها لا إنقاذ ولا تدقيق ولا من يحزنون!