مباشرة إثر الحادثة التي لم يعرف بعد إذا ما كانت ناتجة عن الإهمال أو أنها عمل مدبر، بدا أن المجتمع الدولي تحرك في مرحلة أولى على مستوى الأعمال الإغاثية، فتقاطرت الطائرات من كل أنحاء الوطن العربي والعالم، محملة بالمواد الإغاثية من كل صنف، كالمواد الغذائية، والأدوية، والمعدات الطبية، والمستشفيات الميدانية، وفرق الإغاثة الميدانية.
بالإضافة إلى مساعدات مادية عاجلة قدمتها عدة بلدان، لمساعدة أكثر من 300 ألف لبناني تضرروا مباشرة جراء الانفجار.
وفي السادس أغسطس، أي بعد يومين من الانفجار، حطت طائرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بيروت، حيث قام بزيارة رئيس الجمهورية وموقع الانفجار، فضلا عن الأحياء السكنية التي تضررت مباشرة. والأهم أن ماكرون التقى سكان تلك الأحياء الذين انفجروا غضبا ضد الطبقة السياسية اللبنانية، التي اعتبروا أنها مسؤولة عما حل بهم من ويلات.
وقد حفلت جولة الرئيس الفرنسي في أحياء منكوبة من بيروت، بسيل من الاتهامات القاسية التي وجهها المواطنون شطر الطبقة السياسية والمسؤولين في الحكم، ولاقاهم ماكرون في غضبهم مطلقا تصريحات ومواقف قاسية بسلبيتها تجاه الطبقة السياسية، مما أدى في تلك اللحظة إلى حصول التفاف كبير حول رئيس فرنسا.
ووصل الأمر إلى أن الكثيرين في لبنان رأوا في ماكرون “مخلّصا” لهم مما اعتبروه “آفة” الطبقة السياسية اللبنانية، وذلك على خلفية الأزمة الاقتصادية والمالية والسياسية التي انفجرت في السنة التي سبقت، وتحديدا في السابع عشر من أكتوبر 2019، ومعها انهار البنيان المالي للدولة اللبنانية، ومعه العملة الوطنية.
فقد احتجزت المصارف ودائع المواطنين اللبنانيين والعرب والأجانب، ودخلت البلاد في أزمة سياسية ووطنية كبيرة، مع استقالة حكومة سعد الحريري، بعد أيام من اندلاع ما سمي بـ”ثورة 17 تشرين”.
تبع ذلك عدة أشهر من الفراغ الحكومي، إلى أن جرى تكليف أستاذ جامعي يدعى حسان دياب بتشكيل الحكومة الجديدة، التي اتخذت في ربيع 2020، قرارا بالامتناع عن دفع ديون الدولة للخارج، مما أدى إلى مزيد من الانهيار المالي والاقتصادي.
واستقرت البلاد في دوامة من الأزمات المتلاحقة، إلى حين حصول انفجار المرفأ، الذي أطاح بها مفتتحا مرحلة جديدة من الأزمة اللبنانية شديدة التعقيد.
غادر الرئيس الفرنسي بيروت واعدا بالعودة إليها في الأول من يوليو، للمشاركة في الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الكيان اللبناني، ولطرح مبادرة سياسية لإنقاذ لبنان من أزمته، على أن يتزامن ذلك مع تكليف شخصية مستقلة تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، والتي كان يفترض حسب “النصائح” الفرنسية، أن تتألف من شخصيات تكنوقراطية مستقلة وتتمتع بالكفاءة، والأهم من ذلك كله أن تكون نزيهة.
في بيروت، جمع ماكرون القادة السياسيين الرئيسيين في البلاد، باعتبارهم يمثلون الكتل الرئيسية في البرلمان، وطرح عليهم مبادرة اقتصادية مالية إصلاحية لإنقاذ لبنان من الأزمة.
وتكونت المبادرة من 40 بندا وزعت عليهم، مشترطا أن تتشكل حكومة جديدة بالمواصفات التي كان قد نصح بها، على أن تسمى “حكومة مهمة” مؤقتة، لا تتعاطى في القضايا السياسية وتتجنب المسائل الخلافية التي تقسم اللبنانيين، ولا تهدد القوى السياسية التي كان المطلوب منها أن تتنحى جانبا عن السلطة التنفيذية.
كما كان من المهم أن تباشر “حكومة المهمة” فورا بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي، للإنقاذ المالي للدولة، وأن تتفاوض أيضا مع دائني لبنان الخارجيين، والأهم أن تباشر بإقرار إصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة وسلطاتها لإعادة كسب ثقة الشعب والمجتمع الدولي.
وكان من المقرر، حسب الخطة، أن تتشكل حكومة في غضون 3 أسابيع، وبالفعل في 31 من الشهر نفسه، جرى تكليف السفير اللبناني في برلين مصطفى أديب بتشكيل الحكومة، ضمن المواصفات التي طرحها الفرنسيون ووافق عليها القادة اللبنانيون.
وبعد أخذ ورد ومناورات سياسية أعادت إلى الأذهان الأساليب السابقة لتشكيل الحكومات، اعتذر السفير أديب عن تشكيل الحكومة، بعدما واجه ضغوطا متعارضة بين القوى السياسية، التي أطلت برأسها في التركيبة الحكومية، من خلال إصرار ما يسمى “الثنائي الشيعي” المؤلف من حزب الله وحركة أمل، برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري، على الاحتفاظ الدائم بوزارة المال، وتعيين وزير يمتثل لقرارهما فيها، نظرا لأنها تمثل في تراتبية القرار التنفيذي اللبناني التوقيع الرابع في الجمهورية، مما يمنح “الثنائي الشيعي” حق “الفيتو” على مجمل القرار التنفيذي الحكومي.
كان أديب يصر على رفض منح أي قوى سياسية حق تعيين أو حق الإشراف على أي وزارة بعينها، لكنه عاد واضطر بفعل المناورات السياسية متعددة الوجوه، للرضوخ وصولا إلى الاعتذار بعد أقل من 26 يوما على تكليفه.
ووجه اعتذار أديب عن تشكيل الحكومة، ضربة كبيرة للمبادرة الفرنسية، لم يظهر مداها في البداية، ثم بدا فيما بعد أنها أطلقت مسلسل تراجعات عن روح المبادرة في “طبعتها الأولى” التي عرضها الرئيس الفرنسي، وحظيت بتأييد شعبي لبناني واسع، فضلا عن قبولها في عواصم القرار المعنية بالملف اللبناني عربيا ودوليا.
في الثاني والعشرين من أكتوبر اللاحق، جرى تكليف سعد الحريري تشكيل الحكومة، على أساس أن الحريري رشح نفسه ليحمل المبادرة الفرنسية، ويشكل “حكومة مهمة” لمدة محددة، تنحصر مهمتها ببندين هما: وقف الانهيار، وإعادة إعمار أحياء بيروت التي تضررت جراء الانفجار.
بدأت رحلة الحريري لتشكيل الحكومة على قاعدة أن التشكيلة ستكون خالية من حزبيين، ومؤلفة من شخصيات مستقلة تتمتع بالكفاءة والنزاهة. لكن المناورات السياسية المتعارضة في البلاد، أعادت اللعبة شيئا فشيئا إلى مربعها الأول، أي إلى تدخل وتداخل مصالح القوى السياسية التقليدية، التي استغلت “التساهل” الفرنسي في طريقة تشكيل الحكومة.
وبهذا، تواصلت التراجعات والتنازلات، بدءا من تكريس منح “الثنائي الشيعي” بشكل غير معلن حق الفيتو بالنسبة إلى هوية من سيتولى حقيبة المالية، ثم انتقلت التنازلات إلى الحصص المخصصة للطوائف المسيحية، حيث دخل رئيس الجمهورية ميشال عون عنوة على خط تأليف الحكومة، ليحول دون تمكن الرئيس المكلف من اختيار كامل الأسماء المسيحية في الحكومة التي تتشكل طائفيا مناصفة بين المسيحيين والمسلمين.
واستغل رئيس الجمهورية الحاجة إلى توقيعه الدستوري لولادة أي حكومة، ليرفع من سقف مطالبه. وأصبحت هناك مواجهة مع الرئيس المكلف الحريري، الذي قدم له تشكيلة حكومية كاملة في التاسع من ديسمبر 2020، لكنه (عون) رفضها زاعما أنها “لا تراعي التوازنات والميثاقية الطائفية، ولا تأخذ في الاعتبار دور رئيس الجمهورية في عملية التشكيل، ولا حصته التي يصر عليها”.
كل ذلك فيما كانت الأزمة المالية تتفاقم، ومعها يأس اللبنانيين بفعل تعمق الأزمة المعيشية وانسداد الآفاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ودخل لبنان دوامة الصراع على تشكيل الحكومة، في وقت ما عاد أحد يتحدث عن المطلوب إصلاحيا لإنقاذ لبنان. وقد أخذ العديد من المراقبين المستقلين على الدور الفرنسي قبوله المتواصل بالتراجع عن الشروط التي تضمنتها خطة الطريقة الأساسية.
واعتبروا أن إدارة الملف فرنسيا، أدت إلى اختصار الأزمة باجتماع بين الحريري ونسيب رئيس الجمهورية، رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، وتمحورت خلال أكثر من 4 أشهر متتالية جهود القيادة الفرنسية على محاولة إصلاح العلاقة بين الحريري وباسيل، في وقت جرى تجاوز الأطر الأخرى للمبادرة، التي كان يفترض أن تبعد لبنان أيضا عن لعبة المحاور الخارجية.
هكذا بقي الدعم العربي، وفق ما صرح به وزير الخارجية المصري سامح شكري قبل أيام، مشروطا بالعودة إلى “الطبعة الأولى” للمبادرة، التي يفترض أن تراعي الدستور المنبثق عن “اتفاق الطائف ” لعام 1990، وأن تتشكل حكومة ضمن المواصفات التي طرحها الفرنسيون في الأصل، أي بعيدا عن الأحزاب السياسية، وأن تحظى من خلال تشكيلها وتركيبتها بثقة المجتمعين الدولي والعربي.
وفي زيارته قبل أيام لبيروت، استثنى شكري كلا من حزب الله وجبران باسيل من لقاءاته، في إشارة منه نيابة عن العرب إلى الأطراف المعرقلة لتشكيل الحكومة، موجها رسالة ضمنية إلى باريس مفادها بأن المبادرة التي تتآكل يوما بعد يوم، تحتاج إلى أن تعود إلى الأصل، لا أن تتشتت جراء التراجعات التي قبل بها الفرنسيون حد الغرق في الوحول اللبنانية، بفعل تجاهل أصل العرقلة.
وبعد 7 أشهر على إطلاقها، ماذا بقي من المبادرة الفرنسية؟.. الجواب هو “ليس الكثير”، بعدما سقطت بنهاية الأسبوع الماضي آخر المحاولات الفرنسية لجمع الحريري وباسيل في باريس، وذلك من خارج أطر التشكيل المعتاد للحكومات.
وبعدها بأيام، جاءت زيارة وزير الخارجية المصري نيابة عن المحور العربي، لتعمل على ضبط عملية الإنقاذ على الساعة العربية – الدولية، لا على ساعة اللعبة السياسية الداخلية في لبنان، ولا على إيقاع التراجعات الفرنسية المتتالية. وبالتأكيد ليس على ساعة “حزب الله” الجالس في المقعد الخلفي لعربة العرقلة الحكومية.
وبهذا فإن خلاصة الأمر.. أن المسلسل اللبناني لم ينته بعد.