كنا نعتقد أن إستقرار الوطن سياسيًا وماليًا وقضائيًا وأمنيًا يقوم على مسلمات لم يكن اللبنانيون ليختلفوا عليها يومًا، على رغم التباعد في وجهات النظر حول مواضيع خلافية عدّة.
ومردّ هذا الإعتقاد أن اللبنانيين، إلى أي فئة سياسية أو طائفية إنتموا، لن يقدموا على هدم الهيكل على رؤوسهم، ولن يتخّلوا عن الحدّ الأدنى من الوطنية.
ولكن إتضّح للخارج وللداخل على حدّ سواء أن ثمة من لا يريد لهذا الوطن قيامة، ولا يريد له الإستقرار على كل المستويات، بل يعمل بالتضامن والتكافل مع آخرين على تفريغ المؤسسات من مقومات صمودها. نجحوا في بعض القطاعات وفشلوا في تحقيق ما يصبون إليه في قطاعات أخرى.
فأين نحجوا وأين فشلوا، على رغم المحاولات المتكررة؟
نجحوا يوم تمّ تعطيل دور رئاسة الجمهورية، فكان الفراغ في سدّة الرئاسة طيلة سنتين ونصف السنة، مع الإيحاء من جهة ثانية بأن لا رئيس للجمهورية ما لم يتمّ الإتفاق على “الرئيس القوي في بيئته”. فبعد أخذ وردّ طويلين وجلسات إنتخابية وهمية لم يؤّمن فيها النصاب القانوني إنتخب الرئيس ميشال عون، بإعتباره “الرئيس القوي”، وذلك كمؤشر مسبق إلى عدم إمكانية ترشحّ أحد في المستقبل لهذا المركز المهمّ في الدولة إلاّ إذا كان الأقوى بين الأقوياء، إضافة إلى تفريغ “العهد القوي” من أي مضمون إنجازي للإيحاء بأن “الرئيس القوي” لم يستطع تحقيق أي إنجاز فكيف الأمر مع الرئيس العادي أو الضعيف، هذا إذا سلمّنا جدلًا بإمكانية إتاحة الفرصة أمام إنتخابات رئاسية جديدة بعد إنقضاء ولاية الرئيس عون في خريف 2022.
بعد تفريغ الرئاسة الأولى من الداخل حاول هذا البعض تعطيل رئاسة محلس الوزراء، وذلك بالسماح للبعض بمحاولة التعدي على صلاحيات رئيس الحكومة وتخطّيها، دستوريا وعرفًا، عبر بعض الخطوات غير المدروسة وغير الحكيمة، الأمر الذي أدّى إلى إستنفار سياسي للتصدّي لهذه المحاولات، التي كادت تنجح لولا وقوف نادي رؤساء الحكومات السابقين سدًّا منيعًا في وجه محاولات تشويه الدستور وضرب إتفاق الطائف بعرض الحائط.
بعد هزّ الغربال السياسي توجهّت الأنظار إلى القطاع المصرفي، بعدما كثر الحديث بأن هذا القطاع هو ركن من اركان صمود الدولة اللبنانية، فكان ما كان من تفاعلات سريعة ودراماتيكية، حيث بدأت الليرة اللبنانية تفقد تدريجيًا قيمتها الشرائية، وبحيث بات المصرف المركزي حجرًا بين شاقوفين، على رغم تحميله من قبل البعض المسؤولية الكاملة لإنهيار القطاع المصرفي نتيجة الهندسات المالية، التي يُفترض أن تكون معبّرة عن سياسة أهل السلطة.
بعد إنهيار الهيكل المالي حاول البعض، ودائمًا في صيغة المجهول، أن يمدّوا يدهم على المؤسسة العسكرية الأمّ، من خلال إثارة ما يمكن إعتباره إصطيادًا في المياه العكرة بعد الكلام الواضح والصريح والوطني لقائد الجيش العماد جوزاف عون، وذلك بهدف زعزعة الثقة بالقوى الأمنية وقدرتها على ضبط الوضع الأمني، خصوصًا أن هذه الحملة على الجيش تزامنت مع تشكيك البعض في قدرات القوى الأمنية في ظل الفلتان الأمني المتفلت.
إلاّ أن موقف القيادات العسكرية، على رغم الظروف المعيشية القاهرة للعناصر الأمنية بعد تدّني مستوى الرواتب بفعل الإرتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار وتحليق غير منضبط لأسعار السلع الإستهلاكية، حال دون المسّ بهيبة الجيش، إذ وصلت إلى المعنيين أن المؤسسة العسكرية هي خط أحمر من غير المسموح تجاوزه، أيًّا تكن المببرات.
أمّا في خصّ الجسم القضائي، وهو من بين المؤسسات التي لا تزال تقاوم وتصمد في وجه حملات التشكيك، فإن “مسلسل عوكر – عون” لم يكن موفقًا لناحية السيناريو والإخراج والأبطال، على رغم ما أثاره من بلبلة قوبلت بالرفض من قبل مجلس القضاء الأعلى، الذي سيستمع اليوم إلى القاضية غادة عون، على أن يضع حدًّا لأي محاولة لضرب هيبة القضاء، الذي لا يزال الملجأ، كما المؤسسة العسكرية، الذي يُعّول عليه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن ينهار الهيكل على رؤس الجميع، وقبل أن يتقاسم الجراد مع أهل السياسة ما تبقّى من أخضر البلاد ويباسها.