والمفتي الملك تولى الإشراف على المسجد العالي الكبير في الميناء (1884ـ 1947، وهو كان مرجعا إسلاميا للأهالي )، وتولى من بعده أمين الفتوى الشيخ سراج الدين الملك (1936 ـ 1998) لتنتقل من بعده خدمة الجامع الى نجله الشيخ سامي الملك الذي يتولى الامامة والخطابة فيه منذ أكثر من ثلاثة عقود.
وفي معرض التحري عن التمايز بين الميناء وطرابلس أو التناغم بينهما يجد الباحث سعيا دؤوبا من الميناء للحفاظ على خصوصيتها بإحياء عاداتها وتقاليدها في مساجدها ولا سيما المسجد العالي الكبير ولاحقا الحميدي وعمر بن الخطاب وغازي.
اما اللافت فإن هذه الخصوصية قديمة العهد وليست سياسية أو اجتماعية محلية وقد وجدت مع كينونة الفيحاء التي انشأها السلطان قلاوون بعد دخوله طرابلس فاتحا .ويقول طلال منجد في دراسته “مجتمع النهر في طرابلس” ان هذا الحدث يعود للعام 1289 ميلادي حين جدد قلاوون بناء المدينة على بعد ميلين من المدينة الأولى.. على الضفة اليسرى لنهر أبو علي .
ويشير المنجد إلى أنه “ينبغي التمييز بين نواتي المدينة الأولى تمثل الميناء، والثانية تمثل المدينة العتيقة حيث أحياء السويقة والجسرين والقبة ويفصلها أبو علي عن باب الحديد وهضبة أبي سمراء”.
لعله يمكن الاستنتاج هنا أن التمايز الإيجابي بين المدينتين قديم من عمر تلك النواتين لمدينتين سجلتا حضورهما في كل الاستحقاقات الدينية والتاريخية بتناغم وحدة الانتماء ،ولكن بتباين الخصوصية المميزة و.لعله من هنا قام في الميناء كيان شبه مستقل ولو بشيء من الولاء لطرابلس مركز الولاية بداية ثم مركز القضاء.
ويذكر التاريخ أن طرابلس كانت تتمتع باستقلالية اجتماعية ودينية ، فمثلا لقد تحرت طرابلس هلال رمضان وحدها.. اذ يذكر الشيخ علي الشلبي للصحافي حسام الحسن في حديث لصحيفة اللواء يعود للعام 2015 أن طرابلس كانت تحتفي بقدوم أشهر الهلة رجب وشعبان ورمضان “على طريقتها” وان أهلها كانوا يتحضّرون لاستقبال رمضان، كما كانوا ينتظرون أول رجب ويراقبون هلاله، في اشارة الى ان اشهر الهلة احتلت مكانة متقدمة في حياة المجتمع الطرابلسي، فيصعدون الى تلة قلعة طرابلس بأعداد كبيرة، فإذا ما شاهدوا الهلال أبلغوا المحكمة الشرعية فيقوم القاضي الشرعي بالإثبات، وينزل المنادي يطوف أحياء المدينة معلناً ان الغد سيكون أول أيام الهلّة، فأهل المدينة كانوا بغالبيتهم يصومون هذا اليوم، ثم يقومون بزيارة “الجبّانة” بعد صلاة العصر، وكان عدد كبير منهم يصوم الأشهر الثلاثة .
ويتابع الشيخ الشلبي ليسرد كيف أن المدينة كانت تبقى في عرس دائم طيلة الأشهر الثلاثة وصولاً لأيام العيد، فيعمل كل الناس ويسترزقون.. ثم يقترب رمضان فيجتمع الناس عند المحكمة الشرعية بانتظار إثبات الشهر بحضور الشهود.