على طريقة “الفوازير الرمضانية” التي لم يعد لها وجود في الموائد الدرامية التلفزيونيّة، بعدما فقدت بريقها، وغاب وهجها، تتصدّر القاضية غادة عون واجهة الأحداث منذ نهاية الأسبوع الماضي، بـ”فوازير” من نوع آخر، تتداخل فيها سلطة القضاء، مع فوضى السياسة، لكنّها باتت مملّة إلى حدّ بعيد.
بالأمس، كان اللبنانيون على موعد مع حلقة جديدة من “مسلسل غادة عون”، بعدما اعتقدوا أنّ اجتماع مجلس القضاء الأعلى قبل 24 ساعة، وإحالة القاضية المذكورة إلى التفتيش القضاء، كرّس “نهاية الموسم الدرامي”، فإذا بعون تتحدّى الجميع مرّة أخرى، وتشهر رفضها الالتزام بقرار كفّ يدها عن ملفّ شركة مكتّف.
وحتى يكتمل “المشهد الهزليّ”، الذي لم يعد مشروعًا ولا عفويًا، جاءت العراضة الإعلاميّة التي تسلّحت بها القاضية غادة عون، مدعومة بمؤازرة سياسيّة واضحة المعالم، تمثّلت بمن أطلِق عليهم لقب “أنصار القاضية” في مصطلح غريب عن القضاء، وإن كان مجرّد اسم حركيّ، لوصف “جمهور التيار الوطني الحر”، بكلّ وضوح.
مشهد نافر!
مرّة أخرى، بدا المشهد نافرًا في محيط شركة مكتّف، وإن لم يعد يصحّ وصفه بـ”غير المألوف”، بعدما بات شبه يوميّ. فأن تغزو قاضية مكاتب شركة خاصة، أيًا كان الهدف “السامي والنبيل” الذي ترفعه، وتغلّفه بشعار “مكافحة الفساد”، لهو بحدّ ذاته مشهدٌ مناقضٌ لكلّ القِيَم التي يرفعها القضاء، ويقسم القضاة اليمين عليها، وعلى رأسها الالتزام بالقانون.
ويصبح هذا المشهد نافرًا أكثر، عندما تقرّر القاضية أن تدخل مكاتب الشركة عنوةً، غبر خلع الأقفال الرئيسية بعد إقفال الأبواب في وجهها، وتصطحب معها “جمهورًا” لمساندتها في هذه المهمّة، بدلاً من القوات الأمنية التي حضرت إلى “ساحة المعركة” متأخّرة، بل أن تُشرِف القاضية على عملية الاقتحام، وتوزّع إرشاداتها وتوجيهاتها للجمهور المُسانِد، من دون أيّ حسيب أو رقيب.
وفي وقتٍ قد يكون نافرًا أكثر الانقسام القضائيّ غير المسبوق الذي أحدثته تحرّكات القاضية عون منذ أيام، على غرار ذلك السياسيّ الذي تشكو منه البلاد، فإنّ علامات استفهامٍ بالجملة تُطرَح حول الدلالات والمفاعيل السياسيّة، علمًا أنّ هناك من يصرّ على أنّ “حِراك” القاضية يحصل بناءً على توجيهات سياسيّة رفيعة المستوى، ولغاياتٍ لم تعد خافية على أحد، وليس “إلهاء الرأي العام” سوى وجهها الظاهر.
ماذا بعد؟
من هنا، يمكن أن تُعطى تفسيرات عديدة في السياسة لما يجري منذ أيام، ولو أصرّ أنصار القاضية عون على القول إنّ حركتها نابعة من إصرارها على “فضح المستور”، بعدما تحوّلت بدورها إلى محور انقسام، بين مؤيّدٍ لحركتها الإعلامية، التي لا تغيب عنها عناصر “البروباغندا”، ومُعارِض لها، متوجّسٍ من “المستور الحقيقيّ” المختبئ خلفها.
ولعلّ أخطر ما في الأمر يبقى في “تحريك الشارع” الذي أدّت إليه حركة القاضية عون، بدفع شخصيّ منها وممّن يقف خلفها، ولا سيّما من خلال التحركات الشعبيّة “المؤيّدة” لها، والتي قوبلت بتحرّكات مضادّة، دفعت إلى إشكالات، كادت تأخذ البلاد إلى دركٍ لا يريده أحد، خصوصًا أنّ المواطنين يعانون أصلاً من ويلات لا تنتهي، وهم ليسوا بحاجة لوباءٍ جديد يُضاف إلى سلسلة المصائب التي يتخبّطون خلفها.
وممّا لا شكّ فيه أنّ المتضرّر الأكبر من كلّ ما جرى ويجري يبقى القضاء، الذي حاول مجلس القضاء الأعلى الحفاظ على صورته وهيبته، عبر سعيه لحلول وسط، إلا أنّه لم يُفلِح، بعدما ظهر مرّة أخرى أمام العالم “التسييس” الذي يعاني منه، علمًا أنّ ما حدث ذكّر بالتشكيلات القضائيّة، “المرتهَنة” في جوارير القصر الرئاسيّ منذ أشهر، بسبب اعتقاد الفريق الرئاسيّ أنّها جاءت “ظالمة” للقاضية عون تحديدًا، في مفارقة أكثر من مثيرة للانتباه.
آن لـ”مسلسل” القاضية غادة عون وشركة مكتّف أن ينتهي. لم تعد حلقاته مشوّقة، ولا ممتعة، كما أنّها تفتقد لعنصر “الدراما” المطلوب فنّيًا. كلّ ما في الأمر أنّ “أضرار” هذا المسلسل باتت تنذر بالأسوأ. من ضرب القضاء، بوحدته وهيبته، الى ضرب المؤسسات كافة ، إلى تحريك شارع مقابل شارع، ثمّة من يسأل، هل تنتهي هذه القصّة على خير؟ وأيّ نوايا حقيقية مبيّتة خلفها؟!.