لكنّ “الاستنفار” اللبناني وقف عند “حدود” الخطابات والشعارات، حتى إثبات العكس، أو هذا ما فُهِم مثلاً من الاجتماع الأمني رفيع المستوى الذي عُقِد الإثنين في قصر بعبدا، والذي خرج بسلسلة مقرّرات، قد يكون أهمّها “التمنّي” على قيادة المملكة “إعادة النظر” بقرارها، وتكليف وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي “التنسيق” معها على هذا الخطّ.
ومن جديد، رُصِدت الشعارات بالأمس خلال اجتماع رئيس الجمهورية ميشال عون مع وفد من أعضاء مكتب مجلس إدارة جمعية الصناعيين، بحضور وزير الصناعة عماد حب الله، حيث كرّر مقولة عدم القبول بأن يكون لبنان معبرًا لما يمكن أن يسيء إلى الدول العربية، ولا سيما دول الخليج وبالأخصّ السعودية، مع الأمل بأن تعود الأمور مع الأخيرة إلى طبيعتها.
تراكمات بالجملة
مع أنّ القرار السعوديّ الأخير، الذي بدا “مفاجئًا” لكثيرين، كانت له أسبابه الموجبة التي فنّدتها قيادة المملكة، نتيجة تزايد استهدافها من قبل مهرّبي المخدرات في لبنان، إلا أنّ تجلّياته لم تَخلُ من السياسة، وفق ما استنتج كثيرون، ومنهم من ذهب لحدّ اعتبار الخطوة “عقابيّة” في مكانٍ ما، لطبقةٍ سياسيّة “فرّطت” في علاقة لطالما شكّلت “الحصانة” للبنان.
وقد لا يكون هذا الاستنتاج بعيدًا عن الواقع، إذ يرى العارفون أنّ السعودية ما كانت لتُقدِم على خطوة من هذا النوع في ظروف مختلفة، ولو أنّ عامل “الثقة” بالطبقة السياسيّة الحاليّة كان متوافرًا بالحدّ الأدنى، إلا أنّ “تراكمات” الماضي غير البعيد فعلت فِعلَها، على خطّ العلاقة اللبنانية السعودية، منذ ما قبل الهبة السعودية الشهيرة للجيش التي تمّ إلغاؤها، وكلّ ما تَبِع ذلك من مفاعيل أضرّت بالعلاقة “الاستراتيجية” بين الجانبين.
ولعلّ سياسة “التجاهل” التي تقارب فيها القيادة السعودية أزمة تشكيل الحكومة، والتي تعكس في مكانٍ ما “اعتكافًا” غير مُعلَن، أو ربما شبه مُعلن، تعزّز وجهة النظر هذه، خصوصًا أنّ “الاستياء” السعودي من أداء السلطة في لبنان ليس بخافٍ على أحد، وإن كان البعض يحاول “تسطيحه” عبر حصره بشخصيّة معيّنة هنا، أو “تصويره” وكأنّه عبارة عن خلافات “داخليّة”، يعرف القاصي والداني أنّ الحديث عنها غير دقيق.
المطلوب كثير!
على وقع “انفجار” الأزمة مع السعودية نتيجة القرار الأخير للمملكة، سارع “العهد”، ممثَّلاً برئيس الجمهورية في المقام الأول، إلى توجيه رسائل “الودّ” إلى قيادة المملكة، وهو ما يرى كثيرون أنّه ليس نابعًا من “غيرة حقيقية” على المصلحة الوطنية، بقدر ما هو ناجم من “الخشية” من تداعيات القرار، التي قد تؤدّي إلى “كوارث” جديدة ستُسجَّل على “عهد” بات رصيد إنجازاته فارغًا، بعكس “المصائب” التي تسبّب بها.
لكنّ العارفين يؤكدون أنّ رسائل “الودّ” هذه لا تنفع، لأنّ “أزمة الثقة” تكاد تكون سِمة أساسيّة للعلاقة، إذ إنّ السعوديّين ليسوا في وارد تكرار تجارب الماضي، حين كانوا يسمعون الكثير من الكلام المعسول، من دون أن يجدوا في النتيجة الحدّ الأدنى من “التضامن”، بل إنّ الأداء الرسميّ لم يكن يتردّد في “استهداف” المملكة بشكلٍ أو بآخر، بذريعة “الخصوصيّة اللبنانيّة”، التي انطبقت عليها مقولة “السمنة والزيت”.
من هنا، فإنّ إعادة العلاقة مع المملكة العربية السعودية تتطلّب إجراءات عملية سريعة تؤكّد جدية لبنان في تغيير مقارباته، بعيدًا عن الكلام الإنشائيّ الذي لا يغني ولا يسمن من جوع، وبالتالي تتطلب بادئ ذي بدء تشكيل حكومة اختصاصيّين غير قادرة فقط على تطبيق الإصلاحات المطلوبة فحسب، ولكن قبل ذلك قادرة على استعادة “ثقة” الأصدقاء والأشقاء، بعيدًا عن منطق “المحاصصة” و”الأثلاث” وما شابه.
يرى البعض أنّ الخطوة السعودية الأخيرة كانت “رسالة” إلى لبنان، على طريقة أنّ “الكيل قد طفح”، وهي وصلت بدليل “الاستنفار” الذي رُصِد في صفوف السلطة. لكنّ “ردّة الفعل” بقيت، برأي كثيرين، أقلّ من المتوقَّع، فالعودة عن القرار لن تحصل بمجرد “تمنٍّ” من هنا، أو “وعدٍ” من هناك، علمًا أنّ الهدف الحقيقي يتجاوز هذه العودة، ليشمل “الزخم” المفقود على خطّ العلاقة، والذي قد يكون من أسباب الأزمة “العميقة” المتفاقمة…