نقض عروة الصيام

1 مايو 2021
نقض عروة الصيام
كتب سماحة القاضي الشيخ همام الشعار لـ”لبنان 24″: الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وبعد، فقد صح عن الرسول الكريم وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم  أنه قال: “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة” ( رواه أحمد ). 












ويستفاد من الحديث أن التشويه والتحريف والتعطيل سيمس مسائل فقهية عملية يستبعد العقل أن يشكك بها أحد لبداهتها ولانتشار العمل بها بين الناس  مثل الصلاة.
وكم شاهدنا ممن يتصدرون، لصرف الناس عن المحجة البيضاء، قد خاضوا  في هذا الأمر وسموا الأشياء بغير أسمائها فأباحوا المحرمات  وأنكروا بعض الفرائض والواجبات. ومنها وجوب الخمار (الحجاب) تحت مسمى قراءات قرآنية أومعاصرة. وأعجب ما فيهم أنهم لا يتقنون اللغة العربية ولا القرآن ولا الحديث ما خلا حفظ بعض شبهات المستشرقين.

ومن ابتداعاتهم  المتعلقة   بشهر رمضان أن قالوا بعدم فرضية الصيام وببقاء التخيير بين الصيام أو الفدية (إطعام مسكين) في آيات الصيام  من قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة 185) }. وقالوا: إن قوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ليست منسوخة والمرء في أيامنا ما زال  بالخيار بين أن يصوم أو يدفع الفدية. فكان قولهم محاولة لنقض عرى الصيام وصرف الناس عنه ،لولا أن تصدى لهم أهل الذكر.  وقد بين أهل العلم أن الفقهاء  قد تعددت تفسيراتهم للآية 184 فمنهم من قال بأنها منسوخة بآية صيام رمضان التي تلتها – لما صح عن سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية كان من شاء منا صام ومن شاء أفطر ويفتدي- ، وذهب ابن عباس (كما رواه البخاري )إلى أنها محكمة غير منسوخة وانها نزلت في الشيخ الكبير الهرم والعجوز الكبيرة الهرمة ، اللذين لا يستطيعان الصوم ، فعليهما إطعام مسكين عن كل يوم . ثم قال أهل العلم  إن “يطيقونه” مشتقة من الفعل الرباعي “أطاق” يُطيق بمعنى قدر على الفعل بمشقة، لا أنها مشتقة من فعل “طاق”  يَطيق (بفتح الياء) أي قدر ؛ وأن همزة أطاق هي همزة سالبة أو نافية تدخل على الفعل فتنفي معناه. واستدلوا بعشرات الاستعمالات لهذه الهمزة في القرآن الكريم كأقسط بخلاف قسط، وأتى بخلاف  آتى ، وأوى بخلاف آوى… 
والحاصل أن الأمة أجمعت على وجوب صوم رمضان لغير المريض أو المسافر أو من يشق عليه الصوم ، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة. فللخلاف حد محكم  وهو بقاء حكم الوجوب  بحق المستطيع القادر بدون مشقة ولا مرض ولا سفر. 
ويبقى السؤال الأهم:  كيف يغتر بعض الناس بهؤلاء في تقبل تحريفاتهم ، بالرغم من ضعفهم في اللغة وفي العلوم الدينية وبالرغم من تشكيك أهل العلم بمصداقيتهم والتحذير من انحرافهم؟
الجواب: أن الناس قد انحرف ميزانهم في تمييز الحق من الباطل وغلب عليهم هواهم فظنوا أن فهم الدين موكول بقاعدتين: الإثم ما حاك في قلبك ، والحكمة ضالة المؤمن : والنتيجة متابعة أي رأي يرتاحون إليه ولو نطق به جاهل. بل ظنوا أن مخالفة الجماعة علامة على النبوغ والتميز . وقد غاب عنهم أن الشرع قد حدد معياراً  في الاتباع وميزاناً لمعرفة الحق من الباطل ، وهو:
1- في الأخبار والروايات: عدم أخذ الخبر عن فاسق، فيجب التحقق من أخبار أولئك بالبينة، والبينة تفيد غلبة الظن أو اليقين ولا تكون بالظن . لقول الله تعالى {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا }. فلو جاءنا خبر من أي جهة  كان أقصى ما يستفاد منه أن يكون مدعاة للتثبت منه. فإن عجزنا عن ذلك أو صُرفنا عنه وجب اعتباره كأنه لم يكن حتى يثبت العكس.
2- في الاتباع : اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدوة : لقوله تعالى : قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ ( يوسف 108). 
3- في الاجتناب: عدم اتباع المنحرفين عن الدين متخذي الجاهلين قدوة والشهوات قبلة. يقول تعالى : { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ }(هود 116 ) وقوله تعالى { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا  }الكهف 28.  
4- في الاجتهاد: عدم القول في الدين بالرأي والهوى . لقوله  تعالى : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (الجاثية 23)
فحيث ما كان ثمة تصديق لفاسق دون تثبت أو انحراف عن الرسول واتباع من يخالف جماعة المسلمين ويغرف بما لا يعرف : فذاك مدخل الضلال، ونقض عرى الإسلام.
وعوداً إلى فتوى عدم وجوب الصيام  وتطبيقاً لهذه الضوابط، نجد أن من قال بهذا خالف الإجماع – أي خالف سبيل المؤمنين- وأنه مارس التدليس والتحريف بالنقل فأخفى الدليل واجتزأ النقل (فلا يجوز تصديقه فيما  نقله من أخبار ونصوص ) و جعل مرجعيته ما كان مطلوباً شعبوياً ورضي به أصحاب السلطة والنفوذ والمال لمكاسب وحظوة عندهم – فاتبع هواه وضل وأضل-.
   ونذكر مثالاً  تطبيقياً في هذا الشأن: قال أحدهم  المخالف لإجماع الأمة في  شرح  قوله تعالى {على الذين يطيقونه} أن هذه الآية لها تفسيران : الأول أن الآية كانت تجيز للقادرين على الصوم أن يدفعوا بدلاً عنه فدية ثم نسخت. والثاني أن هناك حرف “لا” محذوف بتقدير على الذين  لا يطيقونه. ثم صار يشغب  ويستهزئ ويتساءل من أين قالوا بالنسخ وأن القول بالنسخ من قناعة المفسر واختياراته الشخصية، ثم زاد في التشكيك فسأل مشككاً : يقولون إن هناك حرف “لا”  محذوف، فكيف يتجرأ الناس على أن يقولوا بالحاجة إلى زيادة حرف “لا” حتى يكون كلام  الله منطقياً. ثم استنتج أن من حق المفسر أن يزيد كلمة في كتاب الله أو يحذف كلمة أخرى استناداً إلى شعوره القلبي وما يرتاح إليه بمذاق القلب السليم،  لينتهي إلى أن من حق صاحب القلب السليم أن يزيد و ينقص في كتاب الله لجهة المعنى. ليرسخ رسالة خفية بل ظاهرة أن الاجتهاد الفقهي مرتبط بشعور الانسان وميله القلبي وقناعاته الشخصية، لا أنه محكوم بأصول وقواعد. وكأن الله تعالى لم يبين في كتابه الكريم أنه أنزل آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات (أي محتملات عدة معان) و أن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون المتشابه بما يخالف المحكم.
ونذكر للتوضيح، أن الآية الكريمة تتعلق بحكم شرعي عملي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في السنوات الأولى للهجرة طبقه على مشهد من صحابته ، ثم تناقلوه عنه. حتى إذا جاء الجيل الأول من التابعين وجدوا الحكم ثابتاً معمولاً به ، فبحثوا عن دليله من الوحي فوجدوا عدة أدلة مختلفة توصل إلى هذا الحكم ، فسلك المفسرون مسالك متعددة في الاستدلال على الحكم. فمنهم من قال إن الفدية كانت خياراً ثم رفع التخيير؛ ومنهم من قال إنه لم يكن ثمة تخيير ولكن كلمة “يطيقونه” من الفعل الرباعي أطاق وهمزته سالبة وتعني لم يطقه إلا بمشقة (ومن هذا الاستدلال اللغوي قالوا بتقدير : “لا يطيقونه”).  إلا أن جميع المفسرين التزموا سقفاً للاجتهاد وهو وجوب الصيام على المؤمنين إلا المسافر والمريض والعاجز الزمن . لأن هذا الحكم هو الذي وصلنا بإجماع الأمة  عن حضرة النبي صلوات الله تعالى وسلامه عليه.
  ثم جاء بعض من يدعون التنوير والتجديد فأنكروا الحكم ، ورفضوا الإجماع، ثم تذرعوا بخلاف الفقهاء في الاستدلال  ليستبيحوا اختراع حكم جديد. وعابوا من سبقهم وادعوا أن المسلمين جهلوا حكم الله منذ 1440 سنة ليـأتي من يدعي أنه إكتشف معنى جديداً لم يخطر على بال أحد، ولا حتى على قلب الرسول وأصحابه المخاطبين بالآية ابتداء.
ختاما: قد يتساءل البعض أين نقض عروة الصيام في هذا التشغيب  من بعض المتفيقهين وقد بانت عوراته وظهرت انحرافاته عن إجماع الأمة ؟! وهل هناك عاقل يأخذ بهذا الهذيان ! والجواب أنه طالما بقي لهؤلاء منابر ضرار وإضرار يبثون منها تخرصاتهم ، فإنه بعد مدة ستعتاد أسماع العامة على نشازهم، ليتحول تخرصهم إلى خلاف معتبر في  فهم الآية ومعرفة الحكم الشرعي فيها. ولنا فيما سبق منهم، من تغيير في حكم الزنا و شرب الخمرة ولبس حجاب الرأس عبرة؛ فقد صار العوام ينظرون إلى تحريفاتهم،  على أنها خلافات معتبرة وجائزة الاتباع. فالواجب علينا أن لا نمل في التحذير من هؤلاء ، وأن لا نكل في بيان الحق ونحذر ممن يخالفه حتى لا تغرق السفينة . {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} (هود 14)”.