كان من المُفترض أن يكون عيد المقاومة والتحرير، المدرج على جدول الأعياد والعطل الرسمية في لبنان والذي يكرّس في كل عام ذكرى تحرير الجنوب من العدوّ المُحتلّ مناسبة وطنية كبرى تجمع ولا تفرّق وتعزّز روح التلاحم الوطني وتؤكّد على الهوية المشتركة بين الشعب الواحد من مختلف الشرائح والطوائف.
لكنّ الانقسام السياسي الذي ينهش بانتماء اللبنانيين لوطنهم، حوّل كلمة “مقاومة” في اسم العيد الى مادّة للمناكفات والاستفزازات الشعبية والحزبية، وشكّل حساسية بين الشعب اللبناني، واستخدم كمادة دسمة للتصويب على فريق سياسي في البلاد وأُدخل في زواريب الخصومات والنزاعات وحملات التضليل.قد يرى البعض في كلماتي دفاعاً عن “حزب الله” ولكن الحقيقة لن تكون أبدا كما يتمنّى هؤلاء تظهيرها، فبعيداً عن أن الحزب شكّل في تلك المرحلة دعامة أساسية في انتصار أيار ولعب دوراً محورياً في المقاومة والتحرير، غير أن استخدام كلمة “مقاولة” لضرب حقبة حملت امتداداً وطنياً واسعاً، ما هو الا “كليشيه” ركيك يهدف الى شيطنة الواقع وشدّ عصب البيئة المعادية للحزب. ولعلّ مدينة طرابلس المناهضة بغالبيتها لـ”حزب الله” خير شاهد على احتفالات النصر التي عمّت شوارعها آنذاك وملأت سماءها بالرايات الصفراء فرحاً بالنصر الكبير.
مما لا شك فيه أن الموقف الشعبي اللبناني اختلف كثيرا تجاه “حزب الله” منذ المعارك السورية مروراً بأحداث 7 ايار المشؤوم وصولاً الى الأداء في الداخل اللبناني، حيث أنه اتخذ طرفاً حاداً في الصراعات الداخلية حمل البعض الى اتهامه بالعنجهية السياسية بقوّة السلاح، ما يستدعي مراجعة ذاتية من “حزب الله” تجاه التعاطي مع الجمهور السني بشكل خاص، والتي قد يكون بدأ بها فعلا، اذا كان حريصاً على استعادة الاجماع حول “المقاومة”، علماّ أن المعركة الاخيرة في غزة واندفاعة جمهور الحزب الى جانب المجتمع السني في الدفاع عن القضية الفلسطينية همّش الحساسيات بين الطرفين، وأثبتت أن الشارع السني بشكل عام والطرابلسي بشكل خاص يرتقي دوماً الى مستوى الدفاع عن كرامة الارض بوجه اسرائيل متخطّياً الهوّة بينه وبينه و”حزب الله” ومتمسكا بزمن “المقاومة”.يذهب البعض الى تحليلات سطحية مفادها أن تحرير الجنوب مرتبط بشكل مباشر بتسويات دولية أدّت الى قرار انسحاب اسرائيل من لبنان، ما يجعل الاحتفال بعيد المقاومة والتحرير “بلا طعمة” ولا داعي له في الأساس، ولكن هذا القياس للأحداث والذي يبدو غير دقيق على الإطلاق، ينعكس سلباً على البيئة التي ترفض الاعتراف بهذا العيد على اعتباره انتصارا وهمياً وكذباً مفضوحاً، إذ إنّ هذا الموقف المتشنج من المناسبة ليس سوى استهزاءً بذاكرة اللبنانيين وإهانة لتضحياتهم ويؤدي بلا شك الى عزل هذه الفئة لنفسها عن قضية وطنية لا مجال للجدال فيها حين يتعلّق الامر بتحرير جزء أساسي من لبنان بقي محتلا لسنوات طويلة من عدوّ مارس على أرض الوطن كل أساليب التعذيب والوحشية والقتل والظلم والاستبداد.اما لجهة الدولة اللبنانية فهي تعتبر، بالنسبة لي، مقصّرة جداً في تتويج هذه المناسبة على قائمة الانجازات الوطنية، حيث أن الجيش لم يكن “حرفاً ساقطاً” في ملحمة التحرير، بل كان درعاً أساسياً ولو بنسبة ضئيلة نظراً لضعف امكانياته العسكرية، لكن ذلك لا يلغي دوره في تطهير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي واسترجاع كرامته وحقّه بالأمان.وبمنطق أعمق، فإن هؤلاء المكابرين على “أيار التحرير” والمنكفئين عن احتفالات اخرى كـ”نصر تموز” و”تحرير الجرود” من الإرهابيين، متنازلين بذلك عن نشوة الانتصارات الوطنية لحساب فريق آخر، يمنحون بشكل غير مباشر صكّ التحصين من العدوان وضمان الاستقرار الامني الى “حزب الله” عوضاً عن الانضواء تحت رايات تحرير لبنان لإثبات أن هذا الوطن للجميع وأن انتصاراته لن تكون حكراً على فريق واحد دون سواه، بل هي ملك للشعب اللبناني بأكمله.أستغرب حقاً أن لا يرى البعض نفسه معنياً بقضية مرتبطة بمحاربة اسرائيل والعداء لها، فهل المشكلة تكمن في نقص بالوعي والانتماء والهوية الوطنية؟ إذ ان المسألة هنا لا تتعلّق بحسابات سياسية وشعارات متّصلة بتحالفات او خصومات مع دول اقليمية، بل بدولة متّفق على عدائها لإسرائيل وبالتالي فإن بعزل البعض لأنفسهم عن عيد المقاومة والتحرير انما يدسّون رؤوسهم في التراب، حيث أن هذا العيد يجب ان يكون مناسبة وجدانية وسياسية جامعة لكل اللبنانيين لا تحتمل الاستكبار والانكار بل من الضروري ان تبقى مستيقظة في ذاكرتنا نحملها من جيل الى جيل.