مع إغلاق العالم الواقعي أبوابه أمام الحلول، يتطلع اللبناني الطامح إلى فضاء العالم الافتراضي بحثاً عن مخارج ممكنة للأزمة الاقتصادية والمالية المستفحلة. ففي ظل ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، يشكّل الإبداع العلمي والرأسمال البشري سلاح الدول والبلدان المحدودة الدخل والموارد المعدنية والباطنية.
وخلال فترة جائحة كورونا، طوّر عدد من المبتكرين اللبنانيين استجابات إبداعية في مجالات مختلفة، سواء على مستوى التطبيقات الذكية أو الوسائل الوقائية كالكمامات المضادة لفيروس كورونا وأجهزة التنفس الاصطناعية. ولم يتوقف الأمر عند هذا المستوى، فقدّم اللبناني إنجازات عدة، كاكتشاف ثغرات في منصة “فيسيوك” والمواقع الإلكترونية العالمية.مبادرات فرديةيزخر لبنان بالقدرات الشبابية، ومنذ فترات بعيدة ظهرت مبادرات ومؤسسات ناشئة في قطاع الإنترنت وتكنولوجيا الاتصال. ويتحدث ويليام مطر، صاحب منصة، عن تجربته. ففي عام 1997 أطلق الموقع الأول للفن التشكيلي في لبنان. وكرّت السُبحة، وصولاً إلى إطلاق موقعه الذي يروّج للبلاد سياحياً، وينشر صوراً بانورامية بزاوية 360 درجة، ويحصي 600 موقع طبيعي وسياحي.
ويتضمن الموقع خدمات مختلفة وأخباراً عن لبنان وصوراً عن تراثه ومطبخه، إضافة إلى قائمة محدثة عن المهرجانات والرحلات البيئية والخدمات السياحية المحلية، ووظيفة الحجز الفندقي.ويتحدث مطر عن إطلاقه ورشة تحديث من خلال الانتقال إلى صناعة أفلام قصيرة عن لبنان، متطرقاً إلى صعوبات تعترض المبادرات الفردية، بسبب شح الموارد من جهة، والحاجة المستمرة إلى تحديث الموقع وبرمجياته لتتلاءم مع الحواسيب والهواتف الذكية من جهة ثانية.ويلفت إلى الدور الذي لعبته شبكة الإنترنت في فتح فضاء جديد لتسويق الأعمال الفنية والمنتجات التراثية. فهو أسس موقعاً يعرض من خلاله المنحوتات واللوحات والأعمال الفنية، مؤكداً أن الأشهر الستة الماضية شهدت بيع كثير من الأعمال الفنية لقاء “شيك مصرفي، لأن الناس تودّ تهريب أموالها المحتجزة، فيما كان العدد القليل يدفع نقداً”. ويلفت إلى تحفيز أزمة كورونا موقعه الذي يعتمد على بيع التذكارات والصور الفنية والكتب التي تتعلق بلبنان، ويُقبل عليها المغترب.اقتصاد المعرفة رؤية جديدةيعيش لبنان أزمة قتصادية ومالية خانقة، دفعت جزءاً كبيراً من شبابه المتعلمين والكوادر العالية التعليم إلى الهجرة. في المقابل، هناك شعور عام بمحدودية الحلول للأزمة الراهنة بفعل المشكلات البنيوية التي تعانيها القطاعات الإنتاجية، من زراعة وصناعة وتجارة خارجية. أضف إلى ذلك، الاعتماد الكبير على السلع المستوردة من الخارج، من دون أن ننسى تأثير شح الدولار والعملات الصعبة.أمام هذا المأزق، تظهر أهمية توجيه الجهود إلى “الاستثمار في الرأسمال البشري”، والإنتاج العلمي والمعرفي والتكنولوجيا الرقمية. ويُعدّ هذا الأمر مقدمة لتحوّل على الصعيد البنيوي للاقتصاد اللبناني، يتماشى مع التغيرات التي فرضها عالم الإنترنت و”الأجهزة الذكية” وروبوت الذكاء الاصطناعي.هذه النظرة ربما تكون حالمة، وتدفعنا إلى قياس مدى قدرة لبنان على الاستجابة للتحديات التي يفرضها الجيل الجديد من الاتصالات، والفرص التي تقدمها الابتكارات العلمية الثورية. عام 2014، أصدر مصرف لبنان القرار 331 الذي يهدف إلى تخصيص قروض للمصارف بفوائد متدنية للاستثمار مباشرة في رؤوس أموال الصناعات الإبداعية وفي التقنيات الحديثة.واجه هذا البرنامج صعوبات في التطبيق بسبب محدودية الفرص المتاحة ولضعف قدرة المصارف على المساهمة في إدارة الاستثمارات. لذلك، عمد القسم الأكبر من المؤسسات المصرفية إلى إنشاء صناديق أو المساهمة في بعضها الآخر، على أن تتولى هذه الصناديق إدارة المؤسسات التي ستدعمها، ذلك أن إدارة هذه المؤسسات أمر مختلف عن العمل المصرفي التقليدي الذي تجيده المصارف اللبنانية.لبنان في موقع متأخرلم يعُد الاستثمار في تكنولوجيا المعلومات ترفاً في الاقتصادات الحديثة، ذلك أن الدول والشركات التي لم تؤمن الاستمرارية، تحوّلت إلى مؤسسات فاشلة بسبب عدم مواكبة التطورات وتحدياتها.ويختلط الأمر على البعض، بين عملية استخدام التكنولوجيا الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي والاستثمار فيها والاستفادة من نتائجها ومخرجاتها. وبحسب الدراسات، يحتل لبنان موقعاً متأخراً في مجال الاستثمار في قطاع تكنولوجيا المعلومات. وتشير معطيات الفترة الممتدة بين 2012 – 2015، إلى أن البلد احتل المرتبة الثامنة بالنسبة إلى مؤشر اقتصاد المعرفة عربياً. وقد سبقته دول مجلس التعاون الخليجي والأردن، وحلّ في المرتبة 81 عالمياً.أما بالنسبة إلى مؤشر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فتراجع موقع لبنان. وبعد أن احتل المرتبة الخامسة عام 2000، تراجع إلى المرتبة 11 في 2012.مسار انحداريويلفت المتخصص في مجال التكنولوجيا الرقمية ماجد جابر إلى أن “ليس للدولة دور في سوق الابتكار المحلي”، مشيراً إلى أننا “نعيش في ظل مجتمع استهلاكي، وليس هناك ما نصدّره لإحداث التوازن التجاري مع الخارج”. وبراءات الاختراع المسجلة محلياً في لبنان ليس لها امتداد عالمي، فبعض “تطبيقات الهواتف الذكية والاختراعات المسجلة محلياً منسوخة عن تطبيقات لآخرين مسجلة في الخارج”.ويشير جابر إلى أنه “في نهاية العام المنصرم، صدرت النسخة الثالثة عشرة من مؤشر الابتكار العالمي تحت عنوان من يمول الابتكار؟ ويصدر المؤشر بمشاركة المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) وجامعة كورنيل الأميركية ومعهد إنسيد الفرنسي لإدارة الأعمال وعدد من الشركاء، ويقيس الأداء الابتكاري في 131 بلداً واقتصاداً حول العالم، ومن بينها لبنان استناداً إلى 80 مؤشراً تعالج مساهمات البيئة السياسية والتعليم والبنية التحتية وتطوير الأعمال في دعم الابتكار. ويتضمن مؤشرات للقياس من قبيل “نسب إيداع طلبات الملكية الفكرية وعدد تطبيقات الهاتف الجوال المطوّرة ونفقات قطاع التعليم والمنشورات العلمية والتقنية وعدد مواهب البحث وتحسين مراكز البحث والتطوير وغيرها من المؤشرات”.وحلّ لبنان في المرتبة 87 عالمياً من بين 131 دولة، والمرتبة العاشرة عربياً، من أصل 13 دولة، على أساس مقياس الأداء الابتكاري، فيما جاءت سويسرا في الصدارة وتلتها السويد، ومن ثم الولايات المتحدة، في مؤشر عام 2020.وأمام هذا الواقع المتراجع، لم يطرأ أي استراتيجيات لوقف المسار الانحداري. ويستهجن جابر إلغاء مادة التكنولوجيا من المقررات الدراسية للمدارس الرسمية، معتبراً التربية مدخلاً أساسياً للانتقال إلى الاستثمار في عالم المعرفة. ويدعو الدولة إلى الإسراع في إقرار الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي، وبتّ جميع التشريعات التي تساعد على تفعيل مسار الاقتصاد الرقمي في لبنان، إلى جانب استحداث وزارة للتخطيط والتحول الرقمي والابتكار.ويقترح جابر إنشاء صندوق للاستثمار في المشاريع البحثية التطبيقية والشركات الناشئة، وتطوير التشريعات التي تساعد الجامعات على الدخول في الجيل الرابع لضمان تحقيق التنافسية العالمية.خطة للتأهيل المهنييتحدث المتخصص في استراتيجيات التحوّل الرقمي ربيع بعلبكي عن خطة تنفيذية اقترحها على المديرية العامة للتعليم المهني والتقني، وتتضمن المواءمة بين الثورة الصناعية الرابعة (التكنولوجيا الرقمية والمعلومات) وحاجتها إلى فنيين واختصاصيين، من خلال دورات معجّلة للتأهيل المهني، وتقنيات الطابعة الثلاثية الأبعاد والروبوت والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. وتتضمن الخطة مساراً موازياً من خلال تقديم المساعدة للأساتذة والمتعلمين، وتكييفهم مع البيئة التعليمية الجديدة، وصولاً إلى المسار الثالث الذي يعمل على تغيير المنهجية القائمة، ريثما يتم تعديل المناهج والمقررات الدراسات، والانتقال من أسلوب التلقين إلى منهجيات تدمج العلوم النظرية في إطار تطبيقي، كما هو جارٍ في دول متقدمة صناعياً مثل الولايات المتحدة الأميركية واليابان.