كانت الضريبة المُضافة على خدمة الواتساب كفيلة لتكون الشرارة الّتي أشعلت انتفاضة الشعب اللبنانيّ، لأنّها لمست إحدى احتياجاته الأساسيّة في وقتها، أي التواصل مع محيطه، وكذلك مع عائلته ومعارفه خارج حدود البلد بكلفة شبه معدومة. ولكلّ ثورة مسبّباتها، فالإنسان في قلقه الدائم يبحث عن استقراره الجديد ليتطوّر، ويصعد على هرم رقيّه إلى أن يصل إلى قمّته في تحقيق ذاته، كما وضّح ذلك عالم النفس الأميركيّ إبراهام ماسلو.
تبرز اليوم في لبنان احتياجات أعمق وأشدّ حيويّة من تلك الّتي ظهرت ما قبل ١٧ تشرين الأوّل ٢٠١٩، فالعيشة الكريمة أصبحت رفاهيّة خاصّة بأغنى الأغنياء، وغلاء الأسعار سحق معه شرائح المجتمع الاقتصاديّة لتكوّن طبقة واحدة تكاد تلامس درجة “الفقر المُطلق”، فحليب الأطفال نادر، والبنزين يتبخّر في المحطّات بلمح البصر، والمريض يعتمد على العناية الإلهيّة بعدما أصبحت العناية الطبيّة ضربٌ من الخيال.السؤال الّذي يُطرح في هذه البانوراما الدراميّة المزعجة، ألا يقرع الجوع طبول الحرب ضدّ السلطة؟ لكن، أيّ محارب يذهب إلى الحرب من دون زوّادة “مادّيّة” تضمن له استمراريّته وتمدّه بالطاقة. إنّ الجوع كان قادرًا على إفناء أعتى الجيوش عتادًا، وأقواها عزيمة. فوحده الجوع كان قادرًا على سحق جيش هتلر في الحرب العالميّة الثانية في إثر تمدّدهم في روسيا واستيلائهم على أراضٍ محروقة لم تكن تمدّهم بالقوت الكافي.
امتصّت الطبقة السياسيّة زخم الثورة عندما ضربت أُسس حياة المواطن اللبنانيّ، وهي احتياجه إلى الأمور الفيزيولوجيّة كما يشرحها ماسلو في هرمه الشهير، إذ يُصنّف هذه الاحتياجات بدءًا من قاعدة الهرم وصولًا إلى رأسه على النحو الآتي: الاحتياجات الأساسيّة (الفيزيولوجيّة/ الحيويّة)، ثمّ الاحتياج إلى الشعور بالأمان، يليه الاحتياجات الاجتماعيّة، ويتبعها الاحتياج إلى التقدير، لنصل في رأس الهرم إلى تحقيق الذات.لذلك، راهنت السلطة على الجوع، وبدل أن تلبّي احتياجات الشعب الثائر العُليا في تحقيق ذاته، أرتأت بنواياها الشريرة إلى قهر الثائر بحصر تفكيره بالاحتياجاته الأوّليّة. فعندما ضرب الجوع مع غلاء الأسعار، أُصيب اللبنانيّ بتوتّرٍ وجوديّ، فأصبح يركّز في يومه على الأهداف ذات المدى القصير: كيف أُفاضل بين وقتي الّذي أقدّمه للانتفاضة مقابل الوقت الّذي يجب أن أبذله من أجل تلبية احتياجات عائلتي وأضمن استمراريّتها؟ شيئًا فشيئًا أصبحت الثورة ترفًا، لأنّ الاحتياج الفيزيولوجيّ حجب رؤية الأهداف بعيدة المدى: المستقبل الزاهر، وحرّيّة التعبير، والرغد في العيش.أستُنزِف اللبنانيّ معنويًّا أيضًا، لأنّ السياسة الّتي يجب أن تعمل من أجله وتأتيه بالحلول، أصبحت مصدر بليّته. وانتماؤه الدينيّ أو الطائفيّ الّذي يجب أن يعمل على الرقيّ بقيمته كونه إنسانًا، بات في بعض الأوقات سجنًا وتبعيّة لحزبه. فأصبحت منظومة الأخلاق والدين والمجتمع مختلّة، وباختلالها تزعزع إيمان المواطن في مقدرته، ورجاؤه في مستقبل أفضل، ومحبّته في العطاء والتضحية. وحدها الحكومات الفاسدة تجد نفسها ناجحة في ظلّ مجتمع قلق كمجتمعنا اليوم، وللأسف فإنّها تستخدم المواطن المُعدَم كي يصبح عدوًّا لأخيه وأخته، لتعمّ شريعة الغاب أمام كلّ محطّة وقود، وكلّ تعاونيّة…تكمن الطامة الكُبرى في أنّ بعض مكوّنات السلطة تريد استغلال كلّ شيء حتّى الثورة، بمعنى أنّها تلعب على حبل السلطة وتستفيد من نفوذها، ومن ناحية أُخرى تلعب على حبل الثورة لتظهر أنّها إلى صفّ الشعب، لأنّها تُجاهد لاستعادة حقوقه المنهوبة. إنّ الحكومات كانت غير مكترثة لضمان كرامة شعبها، لكنّها اليوم تُصرّ على إهانته عندما تقدّم له الدعم مغلّفًا بخطابٍ وطنيٍّ فارغ، وتسرقه عندما تقدّم هذا الدعم من جيبته الخاصّة، وتستخفّ بمقدراته عندما تطلب منه الرجوع إلى عصور ما قبل الثورة الصناعيّة، في اللجوء إلى وسائل النقل الّتي لا تعمل على الطاقة، أو الاعتماد الكلّيّ على الزراعة المنزليّة، وكأنّ ملء قامة الإنسان يتحقّق في الأكل والنوم، لا في تحقيق الذّات والتطوّر.هكذا نرى أنّ السلطة عمدت على إبقاء اللبنانيّ في قعر هرم الاحتياجات ليَسكنه القلق اليوميّ في كيفيّة إيجاد مستلزمات أطفاله الأساسيّة. وبما أنّ اللبنانيّ مبتكر ومدبِّر، فإنّه قد يلبّي تلك الاحتياجات من جيب ما أدّخره من عرق جبينه. لكن للأسف، يفوق مكر السياسيّين حيلة اللبنانيّ، إذ يبتدعون له غولًا من حيث لا ندري ويخيفونه بشبح الحرب الأهليّة، وبذلك يحصرونه بالمستوى الثاني من الهرم، كي يصبح أسير توجّسه من فقدانه الشعور بالأمان في بلدٍ يعيش على شفير التأزّم الطائفيّ والمذهبيّ المُسيَّر والمبتذل.في ظلّ فِصام الطبقة السياسيّة “الحاكمة الثائرة”، الّتي تعتقل الناشطين وتُنادي للاضرابات العامّة في اليوم عينه، والّتي تضغط على المواطن ليبقى أسير احتياجاته الحيويّة، وتُغذّيه بالخطابات الفارغة في الوقت نفسه. كيف للشعب أن يُغيّر المجتمع، ويعيش التقدير ويحقّق ذاته؟ أمام هذه المعضلة الّتي أوجدتها طبقةٌ حاكمة مريضة، فلنستمرّ في ثورتنا من أجل التعافي التامّ ولو طال الانتظار، علّنا نتحلّى بالرجاء عندما نصوّب نظرنا نحو القمّة ولا نركّز على الدرب الشائك ولو كانت بعض خطواتنا متعثّرة، ونستلهم قول الشاعر أبو القاسم الشابيّ: “وَمَنْ يتهيب صُعُودَ الجِبَـالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر”.