كتبت هيام قصيفي في” الاخبار”: ما مثله لقاء قرنة شهوان قبل عشرين سنة تماماً، من خروج عن الاصطفاف الحزبي والعائلي في الحياة السياسية المسيحية، تجربة فريدة من نوعها. رغم عثرات وانكشاف حقائق ملتبسة عن شخصيات شاركت فيه، إلا أنه لا يمكن الا التوقف عنده، حين يصبح المشهد السياسي والديني المسيحي على هذا المستوى من التدهور الاخلاقي والسياسي. أخرج لقاء القرنة المسيحيين من القوقعة الحزبية ومن سيطرة العائلات التقليدية ومن سطوة الاحزاب على الناس، وفي الوقت نفسه قدم نموذجاً لكيفية قيادة مبادرات سياسية في لبنان وخارجه تجاه كل القوى السياسية، وأسهمت شخصياته بفاعلية في المجمع الماروني، وبعضها كان له مساهمات متفرقة في السينودس من أجل لبنان، وخصوصاً أن البطريرك مار نصر الله بطرس صفير وضع القضية اللبنانية في المحافل الدولية.
ما فعلته الأحزاب بعودتها الى الساحة المسيحية، هو أولاً أنها قزمت القضية بمعناها الجوهري، فلم تنفتح على الخارج إلا لمصالح رئاسية أو مالية. ثانياً، ألغت مفهوم الشخصيات ذات الوجه الفكري والسياسي والثقافي والاكاديمي الرفيع لصالح موظفين لدى رؤساء الاحزاب، فلم تستطع أن تنتج في السنوات الأخيرة شخصية لامعة. وثالثاً، أحكمت القبضة على «المجتمع المسيحي» في خطة العودة الحزبية (بالمعنى الضيق وليس بالمعنى الحزبي المتقدم رؤية وفكراً) ولم تقدم سياسياً خطة شاملة وأبعد نظراً إلى المستقبل. رابعاً، لم تستطع بناء علاقة سوية مع الخارج، لا عربياً ولا غربياً. هناك شخصيات سياسية حزبية من الصف الأول، كانت تستخف في عز معركة استعادتها لحضورها الحزبي، باحتمال دخول إيران على الخط اللبناني، فيما رسمت قيادات أخرى مصالحها المالية والاقتصادية والسياسية على إيقاع خطوط ائتمان مفتوحة مع دول المنطقة تمويلاً «لمناطقها» الحزبية، بينما توزعت اهتمامات قوى سياسية مسيحية على تعزيز أرصدتها المالية والخدماتية والتنفيعات، على مثال ما فعله حلفاء سوريا المسيحيون في لبنان أيام الوجود السوري في لبنان.تبعاً لذلك، بات إحكام القبضة على البلديات أهم لدى الاحزاب المسيحية من العمل على إقامة مستشفيات في المناطق الحدودية من الشمال الى الجنوب، وتقاسم المهرجانات أهم من إعمار مدارس ومستشفيات ذات مستوى يسمح بتثبيت العائدين الى قرى الجبل، وبناء مركز حزبي استفزازي أهم من إنماء مناطق الحرمان، وإعادة خلق ثنائيات حزبية وإشعال النعرات الحزبية ونبش القبور في الجامعات والمدارس أكثر فائدة من الإحاطة بالجامعات نفسها والمدارس التي ازدهرت حتى في عز الحرب. والعمل الحزبي في وجهه السيّئ، تعزز بانهيار في المؤسسات الكنسية والرهبانية التي غرقت في عالم البهرجة والقصور والابنية الفخمة والاموال المفقودة والأراضي المؤجرة لسياسيين، من دون مراعاة الوضع التعليمي برمته، وما يترافق معه من أعباء بدأت تظهر نتائجها اليوم.دلّت أزمة كورونا على أن مواجهة هذا المجتمع للأزمة مواجهة فاشلة، وأولى إشارت الكلام عن اللامركزية الإدارية والمالية أكدت الأمر نفسه، حتى إن أي مبادرة اجتماعية وإنمائية وتربوية واقتصادية بالمعنى الشامل لم تحصل، لولا انفجار المرفأ. واجتماع الفاتيكان لا يعني أن الكرسي الرسولي سيضخ أموالاً في مستشفياتهم ومدارسهم وينقذ العائلات من الفقر الذي يطال كل يوم شريحة أكبر منهم. المسيحيون مسؤولون، كغيرهم، عن الجحيم الحالي: هم موجودون ومسؤولون عن إذلال الناس في صورة مباشرة في بطريركياتهم ومطرانياتهم وأحزابهم المنغمسة في الإعداد للانتخابات النيابية والرئاسية، فيما جمهورهم يتلاشى بالمرض والفقر والهجرة… وهم مسؤولون في القصر الجمهوري وحاكمية مصرف لبنان وجمعية المصارف والمصارف الأساسية، وقيادة الجيش، وقطاع الاقتصاد والتجارة والصناعة، ووزارة الطاقة وشركات المحروقات ووزارات الخدمات المترهلة، كما قطاع المستشفيات والأدوية والمدارس والجامعات. ولا يفترض رمي هذه المسؤولية على السعودية أو إيران، ولا حكماً على الفاتيكان الذي لم يتبق لهم سواه، بعدما فقدوا إطلالتهم السياسية على العالم، إلا في حالات استعطاء الأموال.