تدوم الثورات بقدر ما لديها من زخمٍ حتّى تحقّق أهدافها. وقد عرفت الثورات الناجحة في التاريخ هذه المسيرة الطويلة، وواجهت إخفاقاتٍ وأعادت تقييم خُطاها حتّى وصلت إلى غاياتها. فثورة “الويك أند” غير موجودة في قواميس الشعوب، وما يعيشه الشعب اللبنانيّ اليوم هو مرحلة ثوريّة وإن بدت جامدة، أو معكوسة في ظهور ثورات موازية تدعو إليها السلطة نفسها. لكن في مرحلة إعادة التفكير، ولضمان استمراريّة ثورة ١٧ تشرين، هناك مفصل مفقود إن لم يتمّ استدراكه… فباطلٌ يتعب الثوّار.
لتبلغ ثورة تشرين أهدافها على الأصعدة كافّة وخصوصًا في ردّ حقوق مواطنيها بالعيش الكريم، يجب أن يُبعث من مجموعاتها قيادة خلّاقة قادرة على البناء من دون مصالح شخصيّة لتجذب ثقة المستثمر اللبنانيّ والعربيّ والأجنبيّ، وحين يتحرّر المواطن اللبنانيّ من أعبائه المادّيّة اليوميّة… وما أكثرها! يستطيع أن يتحرّر من تبعيّته السياسيّة لزعيمه، الّذي سيجد أنّ المئة الدولار لن تكون ذات قيمة عند مواطن شبعان في موسم الانتخابات.
وفي مسيرة إعادة التقييم لدى المجموعات الثوريّة، ثمّة دعوة إلى إعادة قراءة جميع تصرّفاتهم، ومقارنتها مع تصرّفات تلك الّتي ثاروا ضدّها، فقد ينسى المرء أو بالحري يستسهل وصوله إلى أهدافه، فيرنو في الخطوات المستعجلة الوصول إلى السلطة، ويضع ذاته في المحور ويُسيِّر بعض الأمور لصالحه. هذه الأسباب لا تكون أصيلة في البدايات، لكنّها قد تجد لها نافذة تخترق الكيان الثائر، وإذا ما استقرّت فيه، أخذت تسحبه بالاتّجاه المعاكس. هذا ما دأبت السلطة الحاكمة على تطبيقه والوصول إليه.
ثار اللبنانيّ لأنّه آمن بأنّه لن يقبل بسياسة الوضع الراهن، فهو يستحقّ ويستطيع أن يحقّق ذاته، كان يحارب من أجل تغيير حالته إلى الأفضل، عكس ما نراه اليوم في محاربته ليبقى على قيد الحياة. وعندما انتفضت المجموعات الثوريّة، وقدّمت عُصارة ثقافتها وحضارتها، ألهمت العالم أجمع بالأحلام الّتي سكنت أبناء لبنان وبناته، وصارت فعلًا “حكايته على كلّ لسان”، كذلك أدهش لبنان العالم في عزيمته ورغبته في الصمود بعد انفجار ٤ آب. لكنّ العالم انتظر أمرًا واحدًا ما زال ينقص الشعب اللبنانيّ… ظهور قائد يختلف عن زعماء لبنان الّذين فُضحت أوراقهم أمام المجتمع الدوليّ.
في الثورات الناجحة على مرّ التاريخ، ظهر قادة لديهم كاريزما انجذبت إليهم الحشود الثائرة لاستطاعتهم بلورة أفكار الشعب بطريقة واضحة ومتجسّدة، إذ أصبحوا رمزًا يختصر الثورة ولا يختزلها. في لبناننا الكثير من القادة الأبطال الّذين يذكرهم التاريخ إلى اليوم، وهم قادرون على توحيد اللبنانيّين حتّى بعد وفاتهم أو استشهادهم، سواء أكانت هذه الشخصيّات ذات انتماءات دينيّة أم سياسيّة بحتة، فإنّها كانت قادرة على جمع اللبنانيّين تحت راية الوطن الواحد لأنّ القائد نفسه تسامى فوق الطائفة والدين والمصالح. وهذا ما يجب على الثورة أن تُنجبه من رحم أحزانها وأفراحها أيضًا.
لا يوجد سلطة غاشمة ترحّب بأيّ ثورة، وإلّا لما وصلت الشعوب إلى الانتفاضة أصلًا. لذلك، كان من البديهيّ على الطبقة السياسيّة أن تضع ثقلها كلّه كي تدفع شعب الكرامة والصمود إلى الاصطفاف في طوابير الخبز والبنزين، ويضيّع طاقاته في البحث عن حليب لأطفاله، ودواء لشيوخه، ولا شيء يحقّق هذه الغاية أسرع من الانهيار الاقتصاديّ الكامل. فبدل أن يتقدّم لبنان ويصبو إلى أن يكون في مصافي الدول المتقدّمة، عمدت السلطة على افقار مقوّمات البلد من احتياطيّ النقد الأجنبيّ بتأخير اصدار قانون الكابيتال كونترول، وتدهور قيمة عملته الوطنيّة، ووهن قوّة المواطن الشرائيّة، فأصبح لبنان ينافس الدول الأشدّ فقرًا ذات مستويات التضخّم الأعلى، علّه يُسجّل اسم لبنان في سجلّات غينيس بطريقة مغايرة.
ولا عدو أعتى من العبثيّة، إذ تحوّل لبنان-الدولة إلى لبنان-المزرعة، فلا مراقبة حدوديّة، ولا حكمة في سياسة دعم المواد الأساسيّة، ولا ترشيد في طباعة الليرة اللبنانيّة، الأمر الّذي أدّى إلى دمج أنماط من الانهيارات الاقتصاديّة العالميّة في نموذج لبنانيّ متفرّد، جمع في مشهدٍ واحد فنزويلا، واليونان، وقبرص، وغيرها…
علينا اليوم أن نقاوم التيّار الّذي يُعاكس رغبتنا في تحقيق لبنان يمثّل ذاتنا الحقيقيّة، وهذا الأمر طارئ جدًّا للحدّ من الهجرة المتزايدة، والمجاعة الرابضة على الأبواب، ولا قدّر الله فوضى أشبه بالحرب الأهليّة. لذلك، تكبر مسؤوليّة المجموعات الثوريّة اليوم لأنّها تحتاج إلى تقديم نموذج قياديّ مُلهِم، يقدّم الحلول الجذريّة لمأساة شعبه، ويتقدّم معه نحو الخلاص.
إنّ وطن الأرز ليس عاجزًا على تقديم مواطنين ومواطنات يتّسمون بمبادئ حسن القيادة البنّاءة، لا يهابون الشهادة في سبيل الشعب كلّه، يعملون لبناء الوطن وتقديم صورة مجتمعيّة متآلفة لتعدّدية لبنان في جميع أطيافه. إنّ القيادة خدمة وليست شأنًا، نموذجًا وليست صنمًا، قاعدة ناهضة وليست وصوليّة. وإنّ القائد القويّ يتّضع ويعرف أنّ القائد يرحل أمّا الوطن فباقٍ إلى لأبد.