دخل لبنان مرحلة الإنهيار الإلزامي بتراجع الدولة المركزية بكل مؤسساتها حتى كادت تلامس المؤسسة الأمنية الوحيدة المتماسكة حسب ما تبين بعد أحداث طرابلس الأخيرة، وكأنه كان مطلوبا وضع الجيش بمواجهة وجع الناس، فلولا وعي القيادة العسكرية لكنا دخلنا في أخطر منزلق يتعرض له البلد.
لقد باتت مؤسسات الدولة بمجملها خارج إطار الواقع سواء بقراراتها، وكيفية التعامل مع الأزمات الكبرى أم بمواقف السلطة الحاكمة التي ما زالت تقاتل، وبشراسة على السلطة، و كأنها تدرك أن ما وصل إليه لبنان لن يتركها بمعزل عن تداعيات نتائج وجودها.إن حالة الإنكار التي تواجه بها الطبقة السياسية الواقع الذي يعيشه البلد بعمق أزمته السياسية، والإجتماعية، والإقتصادية، وحتى الإخلاقية، أوصلته إلى مرحلة لم يعد من الممكن ترميمه، أو إيقاف إنهياره، وحتى في الأزمات الكبرى، تريد هذه الطبقة إدارة الواقع غير آبهة بوجع الناس، ومعاناتهم، وتفكك الدولة.
لا شك في أن الأزمة اللبنانية ليست محلية صرف، بل تتشابك فيها إستحقاقات خارجية لا تسهل عملية تشكيل الحكومة، و لا تفتح مساراً أقله في المرحلة الراهنة، لخروج لبنان من حالة “اللاإستقرار” التي يعاني منها، وهو في طور متقدم من الإنهيار، فرغم الحيوية التي برزت في اللقاء الأمريكي- الفرنسي- السعودي، وفيها جرى بحث الملف اللبناني، لم يتحول اللقاء إلى قوة ضغط قادرة على تغيير الواقع المعقد، والمستعصي على أي حل، كذلك فاللقاء الروحي في الفاتيكان، على أهميته، يبقى في دائرة التمني المعنوي، وخصوصاً في ضوء السؤال عن مدى قدرة الفاتيكان على التأثير، والمبادرة العملية، لإنجاز أي تسوية.إن الإشتباك الداخلي في أوجه، والإستعصاء السياسي الطائفي بلغ حداً غير مسبوق، مؤكداً أن لا حكومة في الوقت القريب، فواضح أن الكيمياء بين رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة المكلف، أصبح من المستحيل إعادة صياغتها، من السلبية المطلقة إلى البراغماتية لتسهيل إمكانية مجرد الكلام بينهما، وما يزيد الأمور تعقيداً أن الحركة الإقليمية، والدولية تجاه لبنان خجولة، ولا تأتي إلا في سياق الإستطلاع.بدأ يتسلل إلى الأروقة السياسية أن الرئيس المكلف صار قاب قوسين أو أدنى من الإعتذار، أو تقديم صيغة مقبولة تتجنب الشروط، والتهديدات الدولية، وهو ينتظر التوقيت المناسب كي لا يؤدي ذلك إلى موجة من التوتر الداخلي.والأخطر ان الاعتذار، من دون خطة لجم متوازية، يمكن أن يؤدي إلى مواجهة ثالثة من الإنهيار، ومزيد من احتراق العملة الوطنية، وبالتالي يقرب لبنان من الإنفجار المخيف.إن تداعيات الإنهيار، بنتائجه السلبية، ستلقي بثقلها حتى على الخارج بحكم موقع لبنان الجيوسياسي، إذا لم يتم توأمة توافق أو تنسيق ما بين الداخل السياسي، والقوى الخارجية المعنية بأزمة المنطقة حول إدارة الأزمة في لبنان، وبضغط دولي، وإقليمي، لعدم سقوط لبنان، وانهياره بشكل كامل.فلو عدنا بالتاريخ قليلاً إلى الوراء، و تحديداً إلى سنة 2005 عندما تعرض لبنان إلى نكسة كبرى بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري، ووصل البلد حينها إلى حالة من الإنقسام العمودي والأفقي غير المسبوق، حدثت تسوية منسقة ما بين الداخل والخارج أنتجت حكومة إنتخابات أدت إلى إستقرار مرحلي رغم تصاعد الأزمات في المنطقة…ناقوس الخطر بدأ يطرق أبواب الجميع، وبقاء الأمور على ما هي عليه الآن يسرع إمكانية وقوع البلد، وهناك من يدرك من الطبقة السياسية أننا أمام منزلق خطير جداً، و قد يكون الإخراج الوحيد إيقاف عجلة المزاحمة على السلطة من قبل القوى السياسية، وبدلا من الصراع فيما بينهم، كان الأحرى بالجميع أن يتوجهوا للتفرغ إلى الإنتخابات النيابية المقبلة التي لم يبق أمام حصولها سوى أشهر، فتتم توأمة إتفاق داخلي- خارجي حول هذه النقطة، وإيقاف الإنهيار الكامل للبنان، وخصوصا أن الخارج له أجندته أيضا في هذه الإنتخابات، مما يعني أننا ذاهبون إلى إنتخابات تحت ضغط الظروف الصعبة، وتحت سقف الإنهيار، وما تنتجه الإنتخابات المقبلة من واقع سياسي مستجد يحدد مسارات الحل في لبنان، فالمفاوضات المرتبطة بملفات المنطقة تكون قد أنجزت بأغلبها، ونكون قد دخلنا في سياق مرحلة سياسية جديدة للمنطقة ولبنان تبنى على أساسها مسارات الحلول.