كتب غسان ريفي في “سفير الشمال”: ثمة سُبات عميق يُخيّم على السلطة السياسية حتى يكاد يُلغي منطق الدولة وأجهزتها وقوانينها وصولا الى السيادة الوطنية.
لأول مرة يشعر اللبنانيون أن بلدهم يتلاشى، في ظل هروب القيادات السياسية من تحمل المسؤولية أو المنافسة في رميها على بعضهم البعض، وإمعانهم في الدفع نحو مزيد من الأزمات والمآسي، وسط عجز واضح عن إمكانية تشكيل حكومة تستطيع القيام بالحد الأدنى من الانقاذ، حيث أن “شعب لبنان العظيم” يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، فيما يرفض رئيس الجمهورية ميشال عون التوقيع على مراسيم تشكيل أي حكومة لا تحقق مصالح تياره السياسي ورئيسه النائب جبران باسيل.
كانت لافتة العاطفة “المشبوهة” التي كادت تترافق مع دموع “تماسيح” من جبران باسيل تجاه الرئيس سعد الحريري، حيث أصيبت أبدان اللبنانيين بـ”قشعريرة” من الحب الذي أظهره باسيل لخصمه، معتبرا “أننا أكبر الخاسرين من إعتذار الحريري”، ونافيا “إصرار رئيس الجمهورية على تسمية الوزيرين المسيحيين، وكذلك سعيه للحصول على الثلث المعطل”..
من يستمع الى كلام باسيل يظن أن التسوية الرئاسية ما تزال قائمة، وأن التعاون في أعلى مستوياته بينه وبين الحريري الذي أراد أن يقطع الحبل بباسيل بعدما أوصله الى منتصف البئر، وبالتالي، فإنه يريد الاعتذار لأنه زاهد بالمنصب الحكومي وليس لأنه ضاق ذرعا بمصادرة باسيل توقيع رئيس الجمهورية ووضع العصي في دواليب القطار الحكومي منذ تسعة أشهر وحتى اليوم وما تخلل هذه الفترة من إساءات الى الرئيس المكلف ومن محاولات لمصادرة صلاحياته وإضعاف حضوره، ومن إفشال متعمد لمبادرات فرنسا والرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله ووليد جنبلاط.
كذلك، فإن من ينظر الى ما بين سطور كلام باسيل، يشعر أنه “يفرك يديه” فرحا وشماتة بوصول الحريري الى الطريق المسدود، وعند الاعتذار لا مانع من “نعي” منمق لتجربة الحريري التي تم إفشالها عن سابق تصور وتصميم من قبل باسيل بالتكافل والتضامن مع رئيس الجمهورية.
يشير مراقبون الى أنه في حال كان باسيل صادقا في كلامه وهو أمر مستبعد، فإنه ربما جاء خوفا من أن يتسبب إعتذار الحريري في فضح العهد، خصوصا أنه في حال تم تكليف رئيس جديد وسارع العهد الى تسهيل مهمة التأليف، فعندها سيكون عون وباسيل مسؤولان عن ترك البلد ينهار على مدار تسعة أشهر من دون تشكيل حكومة بسبب إصرارهما على تصفية حسابات شخصية مع الحريري، الأمر الذي سينعكس مزيدا من الغضب عليهما في الشارع اللبناني الخارج عن طوره بفعل إفتقاره الى أبسط مقومات العيش الكريم.
أما في حال إصطدم الرئيس المكلف الجديد بالشروط نفسها، فهذا من شأنه أن يؤكد الاتهامات بأن عون وباسيل يريدان الثلث المعطل ليكون لهما الكلمة الفصل في القرارات الحكومية ولكي يتحكما بمصيرها، عندها سيكتشف اللبنانيون من هو المعطل الحقيقي لتشكيل الحكومة، ومن يستغل الأزمات ويخوض المعارك تمهيدا لتحقيق طموحات شخصية رئاسية.بات في حكم المؤكد أن أي رئيس مكلف خلفا للحريري لن يستطيع تجاوز السقف السني المرسوم سياسيا ودينيا، ما يعني أن ما يسري على الحريري اليوم سيسري على من سيخلفه غدا، في وقت يبدو فيه الرئيس عون مرتاحا لأن يمضي باقي ولايته من دون حكومة وفي ظل نظام رئاسي يمارسه من خلال المجلس الأعلى للدفاع، وفي ظل رئيس حكومة مستقيل وضعيف يدفع ثم الأخطاء التي يرتكبها والتي تروق لفريق العهد الذي يتعاطى بسلبية مع موقع رئاسة الحكومة، إنطلاقا من حقده على إتفاق الطائف الذي يمنحه السلطة التنفيذية.في غضون ذلك، يبدو أن لبنان بأكمله مثل “وكالة من دون بواب”، فالأزمات تتوالد وكل المسؤولين يقفون موقف المتفرج من دون أن يحرك أحد منهم ساكنا لايجاد حلول أو على الأقل للبدء بمعالجات، والتهريب ينشط يوما بعد يوم ويضاعف من المعاناة في المحروقات والأدوية والأغذية، ولا من يعلن حالة طوارئ ولا من يتصدى للمهربين أو يغلق حدودا غير شرعية، وما يزيد الطين بلة، تعامل حكومات العالم مع لبنان على أساس “الدولة الفاشلة”، حيث بدأت بعضها تتجاوز منظومة الدولة لايصال المساعدات تارة الى الشعب اللبناني وتارة أخرى الى الجيش.وقد جاءت لغة التأنيب التي تحدث فيها سفراء بعض الدول العربية والأجنبية مع رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، لتؤكد أن لا دبلوماسية بعد اليوم مع المسؤولين.كما جاء سفر السفيرتين الأميركية دوروثي شيا والفرنسية آن غريو الى السعودية بطلب من بلديهما للبحث في الأزمة اللبنانية وكيفية تأمين المساعدات للشعب والجيش من دون أي حضور لبناني أو إطلاع من قبل السلطة السياسية على برنامج الزيارة وتفاصيله، لتؤكد أن البلد بات مكشوفا وأبوابه مفتوحة على مصراعيه؟، وأن كل سفارة فاتحة على حسابها وتعمل من دون حسيب أو رقيب تحت شعار تأمين مصلحة الشعب اللبناني، خصوصا أن من فقد ثقة شعبه وثقة العالم وبات موضع إتهام لدى كل المراجع الدولية، يفقد صفة المسؤولية ويصبح شاهد زور على ما يحصل في بلده المشرّع أمام شتى أنواع المخاطر.