بقلم الدكتور عصام سليمان (نقلا عن صحيفة”النهار” بتاريخ ٩ تموز٢٠٢١)في كل مرة يتهدد فيها العيش المشترك في لبنان بسبب هيمنة فريق على مقدرات الدولة وفرض استراتيجية عليها تتخطى لبنان وتهدد وجوده، يتم اللجوء الى طرح الفيديرالية كصيغة تضمن لكل طائفة من الطوائف الكبرى ادارة شؤونها وفق تطلعاتها وثقافتها ما يحول دون فرض ارادة الغير وتقاليده وثقافته عليها. هذا ما حدث اثناء الحرب التي عصفت بلبنان في العام 1975 عندما هيمنت منظمة التحرير الفلسطينية على اجزاء كبيرة من لبنان، وهذا ما يتكرر اليوم مع تعاظم نفوذ “حزب الله” وعزلة لبنان، وسوء ممارسة السلطة بسبب عدم التقيد بأحكام الدستور والامعان في تشويه المفاهيم التي بُني عليها.
تبدو الفيديرالية من الخارج بنية للدولة من السهل اعتمادها وجني فوائدها، غير ان الدخول في تفاصيلها وآليات عمل مؤسساتها وممارسة السلطة على مستويات مختلفة في اطارها يبين انها على درجة كبيرة من التعقيد. ولقد تسنى لي ان اغوص في دقائقها من خلال إعداد اطروحة دكتوراه في فرنسا عن الفيديرالية منذ اربعين سنة ونيف، وإعداد كتاب صدر في العام 1991 عن دار العلم للملايين تحت عنوان “الفيديرالية والمجتمعات التعددية ولبنان”، والاشراف على اطروحة دكتوراه موضوعها “الفيديرالية كحل للمشكلة الكردية في العراق”، والمشاركة في مناقشة اطروحة دكتوراه عن الفيديرالية كبنية للدولة، لذلك اسمح لنفسي بأن اتناول ما يُطرح اليوم بشأن الفيديرالية.
تتكوّن الدولة الفيديرالية من مناطق حكم ذاتي لكل منها دستورها الى جانب الدستور الفيديرالي الذي يسمو على دساتيرها. وتنبثق من الدستور الفيديرالي سلطة فيديرالية تناط بها حصراً السياسة الخارجية والدفاع وكل ما له علاقة بالنقد وبمالية الدولة الفيديرالية، وهذه السلطة تعلو سلطات مناطق الحكم الذاتي ويتولاها برلمان فيديرالي تناط به السلطة الاشتراعية وهو مكوّن من غرفتين، واحدة تمثل الشعب بكامله واخرى تمثل مناطق الحكم الذاتي، وتتولى السلطة الاجرائية حكومة فيديرالية، ويوجد على رأس الدولة الفيديرالية رئيس الدولة.
أما مناطق الحكم الذاتي فلكل منها دستور ينبغي الّا يتعارض مع الدستور الفيديرالي، وتنشأ بموجبه سلطة اشتراعية يمارسها برلمان محلي على ألّا تتعارض القوانين التي يسنّها مع القوانين الفيديرالية، وسلطة تنفيذية محصورة صلاحياتها بما نص عليه دستور منطقة الحكم الذاتي في اطار توزيع الصلاحيات بين الحكومة الفيديرالية والحكومات المحلية. تنحصر صلاحيات برلمانات مناطق الحكم الذاتي وسلطاتها التنفيذية بالصلاحيات التي مُنحت لها بموجب الدستور الفيديرالي. فالفيديرالية تقوم على مبدأين اساسيين، مبدأ الحكم الذاتي ومبدأ مشاركة مناطق الحكم الذاتي في السلطة الفيديرالية عبر الغرفة التي تمثل فيها هذه المناطق في البرلمان الفيديرالي.
بنية الدولة الفيديرالية معقّدة بسبب تعدد المنظومات القانونية التي تتشكل في اطار المنظومة القانونية الفيديرالية، والتي ينبغي ان تكون منسجمة معها من اجل الحفاظ على وحدة المنظومة القانونية في الدولة الفيديرالية. لذلك يشكل القضاء الدستوري في الدولة الفيديرالية ركنا اساسيا تناط به مهمة منع التعارض بين دساتير مناطق الحكم الذاتي والدستور الفيديرالي من جهة، ومنع حدوث اي تعارض بين قوانين مناطق الحكم الذاتي والقوانين الفيديرالية من جهة اخرى، لذلك تأسست في المانيا الاتحادية محكمة دستورية فيديرالية صلاحياتها هي الاوسع بين صلاحيات المحاكم الدستورية في العالم.
من الممكن اعتماد الفيديرالية كحل يضمن الاستقرار في المجتمعات التعددية اذا ما توافرت شروط عديدة يأتي في طليعتها تمركز الجماعات في مناطق محددة جغرافياً، لأن بنية الدولة الفيديرالية تتطلب اقاليم تتشكل في كل منها منظومة قانونية تحولها الى كيان دستوري داخل الدولة الفيديرالية. فلا يجوز ان تتداخل منظومات مناطق الحكم الذاتي، ولا يجوز ان يخضع المواطنون في منطقة حكم ذاتي معينة لسلطة حكم ذاتي قائم في منطقة اخرى. فالفيديرالية هذه هي فيديرالية اقليمية وليست فيديرالية شخصية على غرار النظام اللبناني الحالي حيث لا ادارة ذاتية للطوائف الاّ في امورها الدينية.
ان اعتماد الفيديرالية كبنية للدولة اللبنانية يعني تحويل الطوائف الدينية الكبرى الى كيانات دستورية تتمتع بحكم ذاتي في مناطق جغرافية محددة، وهذا دونه صعوبات كبيرة جدا. فالطوائف في لبنان متداخلة مع بعضها في العديد من المناطق، وقيام مناطق حكم ذاتي على اساس طائفي يولد مشكلة اقليات داخل العديد من هذه المناطق، ولا يمكن حل هذه المشكلة بوضع هذه الاقليات تحت سلطات مناطق الحكم الذاتي التابعة لها طائفيا كل من هذه الاقليات، كما لا يمكن تجاوز هذه المشكلة بالامعان في التقسيم وزيادة عدد مناطق الحكم الذاتي، لأنه بسبب صغر مساحة لبنان لن تكون متوافرة في هذه المناطق مقومات الحكم الذاتي على صعيد الموارد البشرية والاقتصادية والمالية، اضافة الى مشكلة ترسيم حدود مناطق الحكم الذاتي.
من ناحية اخرى، تتطلب الفيديرالية توافقاً على السياسات الخارجية والدفاعية والنقدية والمالية العامة، كونها تدخل حصراً في صلاحيات السلطة الفيديرالية وليس في صلاحيات مناطق الحكم الذاتي. وهذه السياسات هي موضع خلاف بين اللبنانيين لاعتبارات ليست بعيدة عن الطائفية. واذا كان بالامكان التفاهم عليها او على اعلان حياد لبنان، يسقط المبرر الاساسي لاعتماد الفيديرالية بسقوط اسباب الخلاف الرئيسية.
اضافة الى ذلك، تتطلب التعقيدات الناجمة عن توزيع السلطة بين المؤسسات الفيديرالية ومؤسسات الحكم الذاتي مستوى راقياً جداً في ممارسة السلطة من اجل الحفاظ على الانسجام بين اداء السلطات، والابتعاد عن التصرفات التي تقود الى التضارب في صلاحياتها وشل اداء المؤسسات الدستورية وسائر المؤسسات، وهذا يتطلب بذاته قضاء دستوريا يتمتع بصلاحيات واسعة جدا ويمارس دوره بحزم ونزاهة واستقلالية تامة، وهذه الامور من الصعب جدا توافرها في لبنان في ظل الذهنية السياسية الغارقة في التخلف والفساد، والتي اوصلت الدولة الى ما هي عليه، فتطوير الذهنية السياسية كفيل باعادة ممارسة السلطة الى المسار الذي رسمه الدستور.
ان الفيديرالية بتحويلها لبنان الى مناطق حكم ذاتي على اساس طائفي، في ظل الذهنية السائدة، يقود على الارجح الى تحكّم قوى الامر الواقع بالسلطة بشكل مطلق في بعض المناطق، والى صراع محتدم بين القوى المتنافسة على السلطة في مناطق الحكم الذاتي الاخرى بهدف الهيمنة والاستئثار بالسلطة، ولن يكون ثمة مجال للديموقراطية.
اما على الصعيد الفيديرالي فارتباط سلطات مناطق الحكم الذاتي بقوى خارجية متصارعة مع بعضها بحكم تضارب مصالحها الاستراتيجية، في ظل الاوضاع السائدة في المنطقة، يقود الى احتدام الصراع داخل السلطة الفيديرالية، وبخاصة بشأن السياسة الخارجية والدفاعية والتوازنات داخل السلطة الفيديرالية. والصراع هذا قد يقود الى تفكك الدولة وزوالها على غرار ما حدث في يوغوسلافيا الفيديرالية بعد غياب الماريشال تيتو وانهيار الحزب الشيوعي اليوغوسلافي ذي البنية المركزية الصلبة، وتبدّل الاوضاع الجيوسياسية في اوروبا الوسطى. واذا كان لدى الشعوب التي تكونت منها يوغوسلافيا مقومات مكّنتها من انشاء دول مستقلة، فان هذه المقومات غير متوافرة لدى الطوائف في لبنان.
الفيديرالية اذا ما اعتُمدت لن تجعل لبنان سويسرا الشرق لان الذهنية المتحكمة بالقوى السياسية التي ستتولى الحكم في الدولة الفيديرالية بعيدة كل البعد عن الذهنية التي يدار فيها الحكم في سويسرا، ولان الوضع الجيوسياسي في سويسرا يختلف كليا عن الوضع الجيوسياسي للبنان. وسويسرا تحولت في سياق تطورها التاريخي من كونفيديرالية الى فيديرالية وهي تسير باتجاه توسيع صلاحيات السلطة الفيديرالية، ونحن باعتماد الفيديرالية نسلك المسار المعاكس للمسار السويسري.
لقد رسم الدستور، المعدل بموجب وثيقة الوفاق الوطني في المادة /95/ منه، المسار الذي يؤدي الى تحوّل فيديرالية الطوائف، التي هي في المفهوم الدستوري فيديرالية شخصية، الى دولة مدنية وتغليب الدولة على الطائفة تدريجا في اطار العلاقة الجدلية القائمة بين الدولة والطائفة في تركيبة الكيان اللبناني، غير ان من تولوا السلطة ذهبوا في ممارساتهم بالاتجاه المعاكس تماما لما رسمه الدستور فغلّبوا منطق الطائفة على منطق الدولة لأنهم زعماء طوائف وليسوا برجال دولة. فالمطلوب العودة الى الدستور، وذلك بانشاء قوة سياسية تطرح نفسها بديلا من القوى التقليدية، على اساس برنامج حكم ينطلق من التجارب التي مررنا بها ويرسم طريق المستقبل مرورا بادخال تعديلات على الدستور هدفها ضبط ممارسة السلطة وتفعيل اداء المؤسسات الدستورية، واعتماد اللامركزية الادارية والانمائية الموسعة. فالمطلوب عقلنة النظام والخروج من الحلقة المفرغة التي يدور فيها والسير باتجاه الدولة المدنية.