يواصل ” لبنان 24″ الاضاءة على جريمة انفجار مرفأ بيروت، عبر سلسلة حلقات كان بدأها بعيد انفجار المرفأ.وهنا حلقة جديدة:
كان متبقياً من أوراق روزنامة آب المشؤوم ٢٠ يوماً فقط ليحتفل أمين سعد الدين الزاهد بعيده ميلاده الرابع والأربعين، وقبل الإحتفال الإفتراضي الذي كان يحضره الإخوة الأربعة والوالدان المسنّان وزوجته وأولاده بثلاثة عشر يوماً، عاد الإبن البكر من مستشفى الزهراء الى حضن العائلة المفجوعة جثة شبه كاملة تلقت نزيفاً في الدماغ أدى الى الوفاة، بحسب تقرير الطبيب الشرعي، أتبِعت برِجلٌ مفصولةٌ عن الجثة وُجدت بين أشلاء عدد من ضحايا إنفجار المرفأ في أحد مستشفيات مشغرة في البقاع الغربي.
ما نسرده هو واقع أفظع من أن يكون سيناريو لأحد أفلام الرعب السينمائية،إنها قصة أمين أو ” أبو سعد” إبن طريق الجديدة، هذا الشاب العصامي المؤمن والوسيم الذي كان يناديه محمود إبن شقيقته ريما ب “خالو المصلّح” لشغفه وبراعته بأعمال الميكانيك وقدرته على تصليح “كل شي بيتخرّب” مهما كان عصيّاً أو معقداً، وهي المهنة التي تعلمها منذ السابعة عشرة من عمره، وتنقّل بعدها في مهن عدة قبل أن يستقر في إحدى الشركات المشغّلة لمحطة الحاويات في المرفأ مديراً مسؤولاً عن العمال.
سبعة أيام بلياليها بعد الإنفجار قضتها شقيقته ريما وزوجته وفاء أمام بوابة المرفأ رقم ٣ حيث منعتا من الدخول ، فافترشتا الأرض بانتظار خبر ما، بإنتظار جثة أو أشلاء تخرج من حرم المرفأ، قبل أن تبدأ رحلة الدوران المضني في حلقة المستشفيات مع شقيقيها بعد أن تبلغت العائلة أنه لم يعد هناك من جثث داخل المرفأ. من مستشفى الوردية المدمرة ومع لائحة بأسماء المستشفيات كان يُشطب عنها إسم المستشفى المقصود من بعدها، بدأت رحلة العذاب بحثاً عن أمين، رحلة الدخول الى برادات المستشفيات للتعرف عليه بين الجثث، من مستشفى الجامعة الأميركية الى مستشفى مار يوسف الدورة حيث تلقى الأشقاء فيديو من أحد الأشخاص لجريح تتم معالجته فيه. شَبَهُ الجريح الحي مع أمين كان كبيراً، فإختلط الأمل بالألم الذي كان يعصر قلب أفراد العائلة فهُرعوا الى المستشفى ليتبيّن خطأ ما عاينوه في الفيديو، خطأ تكرر ثلاث مرات لتحسمه في النهاية علامة فارقة في رِجل أمين جعلتهم يجزمون هوية الجثث الثلاثة مع صدور نتائج فحوص الحمض النووي.
يوم الرابع من آب لم يكن أمين راغباً بالذهاب الى العمل، كان يخطط مع شقيقته ريما لإنجاز إجراءات نقل أولاده الثلاثة من مدرستهم الى المدرسة التي يتعلم فيها أبناؤها، جاء باكراً من منزله في الناعمة قاصداً منزل ريما في بيروت “عملنا صبحية سوا” تقول الأخت “الثكلى”، والكلمة في معناها ومحلها لأنها شعرت، بفقدان شقيقها الذي يكبرها بثلاث سنوات، وكأنها خسرت إبناً كان أميناً على أسرارها ومكنوناتها، هو الذي حمل اليها “بدلة عرسها” وزفّها عروساً الى بيت زوجها.
تجزم ريما بما تجمّع لديها من معطيات أن شقيقها وعند نشوب الحريق في المرفأ كان لا يزال حياً إذ إستقل سيارة اللادا التابعة للشركة وذهب لإنتشال زميليه الضحيتين نور دوغان ومحمد طليس، لم يكن يريد ترك رفيقيه بالقرب من الحريق الذي إلتقط صورة له وأرسلها على إحدى مجموعات التواصل، وفرضية بقائه على قيد الحياة لفترة ما بعد الإنفجار تؤكدها وضعية الجثة، حيث كان يمسك رأسه بيده وكأنه كان يحاول إيقاف نزيف أو الضغط على مكان الألم.
في شهر رمضان المبارك الفائت، هذا الشهر الموسوم بعلّة المغفرة والرحمة، خصصت ريما ركناً صغيراً في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أمين أمام محل شقيقه كل يوم بعد الإفطار، ووضعت صورته ونسخة من القرآن الكريم لمن يريد أن يفتح من خلاله أبواب الطاعة والتوبة، ولأنها تؤمن كما أمين الذي عاش حياته ملتزماً بأركان دينه السموح، بأن ” كل ما في الكون يبدأ بالرحمة ويقوم ويستمر معها”، كانت توزع على مدار الشهر الفضيل مئة ربطة خبز كل يوم للمحتاجين.
بالصوم وصلة الرحم وصلاة الليل والقيام والزكاة والصدقة والإحسان، تستعد ريما وأشقاؤها لإستقبال شهر رمضان المقبل الذي سيمر للمرة الثانية في غياب أمين، لكن قبل ذلك هي تنتظر مع كل أهالي ضحايا المرفأ بعضاً من وميض عدالة لن يرد “الأحباب” حتماً، لكنه قد يمسح بلسم رحمة على جرح نازف لن تضمده سوى عدالة الرحمن.