يقول بعض الذين يتعاطون بالسياسة بمفهومها الإستراتيجي وليس بمعناها السطحي إن الفاتيكان يتحرّك ديبلوماسيًا بتؤدّة وتأنٍ وروية، من دون إستعجال وحرق المراحل والمراكب معًا، ومن دون ضجيج إعلامي و”بروباغند” دعائية في غير محلها، لأن لا غايات مصلحية له مع أحد، بل ينظر إلى القضايا الشائكة في العالم من منظار مغاير لنظرة باقي الدول، التي تحرّكها عادة غايات مصلحية آنية. ومن بين الملفات التي تهمّ الكرسي الرسولي في هذه الأوقات العصيبة القضية اللبنانية وما تعانيه بلاد الأرز من أزمات خانقة قد تهدّد كيانه وتغيّر جوهر رسالته، التي تحدّث عنها البابا القديس يوحنا بولس الثاني. ولهذه الغاية كان سينودس الفاتيكان الذي دعا إليه قداسة البابا فرنسيس، والذي رفع مستوى إهتمام الكرسي الرسولي بالوضع اللبناني بمجمله، وذلك إنطلاقًا من حرصه على الصيغة اللبنانية الفريدة وما تمثّله من معانٍ وقيم يحتاج إليها العالم كله، في الوقت الذي تجتاحه بدع تخرج عن أخلاقيات وتعاليم الأديان السماوية، في ظل سيطرة الجنوح نحو العنف والتعصّب الأعمى وتعميم “ثقافة” الكراهية والأنانية.
كان همّ البابا من وراء دعوته إلى السينودس المسيحي، الذي إنعقد في الفاتيكان في الأول من تموز الجاري، توجيه أكثر من رسالة إلى العالم، وبالأخص إلى الدول التي لها أكثر من مصلحة في الإقليم، وفيها حثٌّ على الحفاظ على لبنان كبلد نموذجي في التعايش الحضاري بين المسيحية والإسلام من ضمن ما نصّ عليه إتفاق الطائف، الذي يجب أن يطبّق بروحيته قبل تطبيق نصوصه الدستورية بحرفيتها، التي تقبل الإجتهادات والتفسيرات المتناقضة وفق ما ترتأيه مصلحة هذا الطرف أو ذاك الفريق.
وفي رأي مصادر كنسية مطلعة على خلفية موقف الفاتيكان أن السينودس المسيحي – اللبناني هدف إلى تحقيق أمرين جوهريين: الأول، إفهام العالم بأن لبنان ليس متروكًا، وبالتالي لا يمكن التصرّف مع واقعه على أنه ميؤوس منه، بل يجب أن تتضافر جهود الدول التي تدعو إلى تقديس الحرية من أجل الحفاظ على لبنان بوصفه ملتقى الحضارات ومصهر القيم.
أمّا الرسالة البابوية الثانية فكانت موجّهة إلى واشنطن، وبالتحديد إلى الرئيس الأميركي الروماني الكاثوليكي جو بايدن، وفيها تشديد على وجوب أن يكون للولايات المتحدة الأميركية تحرّك فاعل وسريع من أجل تسريع الحلول الممكنة للأزمة اللبنانية، التي بدأت تتفاعل على المستوى المعيشي بعدما وصلت الحال في لبنان إلى أدنى درجات الإنهيار، الأمر الذي يقتضي تحرّكًا سريعًا من قبل واشنطن بالتعاون والتنسيق مع سائر الدول المهتمة بالوضع اللبناني، قبل الإنهيار الكّلي.
وفي إعتقاد هذه المصادر أن البابا فرنسيس، وما له من علاقات مباشرة ووثيقة ووطيدة مع الرئيس بايدن، إستطاع أن يقنع من يجب إقناعهم في الإدارة الأميركية بوجوب رفع مستوى الإهتمام بالملف اللبناني، ووضعه من بين أولويات الملفات الخارجية الموضوعة أمام الإدارة الأميركية الجديدة، والتي قد يكون لبعضها إرتباط بالوضع اللبناني، ومن بينها المحادثات الأميركية – الإيرانية في ما يتعلق بالملف النووي والوضع في الإقليم.
ولا تستبعد هذه المصادر أن تشهد الساحة اللبنانية تحرّكًا أميركيًا مكثّفًا في الأسابيع القليلة المقبلة، تمهيدًا لحركة إنقاذية بدأت تتبلور معالمها تدريجيًا، مترافقة مع تحرّك متصاعد من قبل فرنسا، التي وضعت الملف اللبناني في أعلى سلمّ أولويات تحرّكها الديبلوماسي، خصوصًا بعد زيارة وزير خارجيتها جان إيف لودريان للعاصمة الأميركية.