في جولتي الاستشارات النيابية الملزمة في قصر بعبدا وغير الملزمة عين التينة، بدا الانطباع العام “إيجابيًا”. كلّ الكتل تُجمِع على دعم الرئيس المكلَّف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي وتسهيل مهمّته “الصعبة”، وربما “المعقَّدة”، بل تقول إنّها “لا تريد” شيئًا لنفسها، بما يفترض أن يطيح، لو صدَق، بكلّ العقد، الحقيقيّة منها كما المفتعلة.
لعلّ الرئيس ميقاتي نفسه أكّد، رغم تطبيقه شعار “خير الكلام ما قلّ ودلّ”، هذا الجو “الإيجابيّ”، حيث شعر كلّ من التقوه واطّلعوا على أجوائه بأنّه “مستعجل” تأليف حكومة تكون قادرة على تلبية تطلّعات اللبنانيين، والانطلاق بورشة الإصلاحات التي ينتظرها المجتمع الدولي منذ أشهر طويلة، لمدّ يد المساعدة، لعلّها تنجح في تجنيب اللبنانيين سيناريو “الانهيار” شبه الحتميّ، والذي ستكون تداعياته “كارثيّة” على الجميع، متى وقع.
وسرعان ما ترجم الرئيس ميقاتي هذا “الاستعجال” على أرض الواقع، إذ لم تكد الاستشارات النيابية التي أجراها في عين التينة تنتهي، حتى توجّه إلى قصر بعبدا، حيث تحدّثت المعلومات عن تقديمه “عرضًا أوليًا” لشكل حكومته ومناقشته مع رئيس الجمهورية ميشال عون، على أن يكون للبحث صلة، في لقاءات “مكثّفة” متتالية، ستعقد من أجل الخروج بحكومة قريبًا، وربما قبل الرابع من آب كما يروّج البعض.الطريق “معبّدة” أمام الرئيس المكلف؟لكن، خلافًا لكلّ هذه الأجواء “الوردية”، ثمّة من يؤكّد أنّ الطريق لن تكون “معبَّدة” أمام الرئيس المكلّف لتحقيق ما يصبو إليه، وبالوتيرة السريعة التي يريدها، ولو توافرت لديه الإرادة الحقيقية لإحداث “الخرق” المطلوب، لا سيما وأن البناء على ما يقوله النواب في العَلَن وأمام الإعلام بعد الاستشارات، يمكن أن يكون “مزيَّفًا ووهميًا” إلى حدّ بعيد.ويذكّر هؤلاء بأنّ الأجواء الإيجابية التي أعقبت جولتي الاستشارات لا تشكّل “سابقة” من نوعها، إذ سبق أن أحاطت بالاستشارات التي أجراها “سلف” ميقاتي في المهمّة، الرئيس سعد الحريري، حيث أوحت مواقف النواب والكتل أنّهم سيدعمونه ويسهّلون مهمّته، وهو ما جعل الكثيرين “يتكهّنون” يومها بولادة سريعة للحكومة، حتى إنّ البعض ذهب في “تفاؤله” لحدّ توقع أن تبصر النور بفترة قياسيّة، فإذا بالرئيس المكلّف يبقى تسعة أشهر عاجزًا عن التأليف.ولعلّ “العِبرة” تكمن في أنّ هذه الأجواء الإيجابية “المزيّفة”، إن جاز التعبير، بقيت تراوح مكانها طيلة فترة الأشهر التسعة التي قضاها الحريري وهو يحاول تأليف الحكومة، أو ربما بتعبير أدقّ، تذهب تارة وتعود تارةً أخرى، فكانت أسهم “التفاؤل” ترتفع مع كلّ زيارة له إلى قصر بعبدا، من دون أن يترجَم ذلك على أرض الواقع، سوى بالاتجاه المعاكس، حين كانت “السجالات النارية” تنفجر بين الجانبين، دون أيّ مقدّمات.الأنظار على موقف باسيلمن هنا، ربما اتجهت الأنظار تحديدًا إلى موقف رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل، الذي بدا بالنسبة للكثير من المراقبين متأرجحًا بين الإيجابية والسلبية، فهو أبدى انفتاحًا على الرئيس المكلَّف، وأكّد أنّه سيقابل أيّ إيجابية من جانبه بإيجابيّة مماثلة بل أكبر منها، وقال إنّه لا يريد أيّ “حصّة” في الحكومة، من دون أن “يحسم” سلفًا مسألة عدم منحها الثقة كما كان يفعل مع حكومة الحريري التي لم تبصر النور.لكنّ كثيرين رأوا “سلبية” مغلَّفة بهذه “الإيجابية”، فعبارة أنه لا يريد “شيئًا” من الحكومة، سبق أن قالها في مرحلة تكليف الحريري، من دون أن تترجَم تسهيلاً على خطّ التأليف، إذ يضعها كثيرون في خانة “رمي الكرة” في ملعب الآخرين لا أكثر ولا أقلّ، علمًا أنّ هناك من طرح علامات استفهام حول بعض ما خرج به باسيل، في هذا التوقيت “الحَرِج”، ولا سيما لجهة حديثه عن “التجربة غير المشجّعة” مع الرئيس ميقاتي.وبين هذا وذاك، ستكون الأنظار مشدودة نحو كيفية “ترجمة” باسيل لموقفه “المبدئي” في الاستشارات الفعليّة والجدّية، في ظلّ وجهتي نظر غير متقاطعتين داخل “التيار”، بين من يعتبر المرحلة الحالية استكمالاً لمرحلة تكليف الحريري، ما يضعها في الخانة نفسها، ومن يرى في المقابل أنّ “روحيّة” ميقاتي مختلفة، وهي تتطلّب مقاربة من نوع آخر، لا سيما وأنّ “الفرصة” المُتاحة اليوم قد لا تتوافر في المستقبل القريب.لا تزال “الإيجابية” مسيطرة على الأجواء، “إيجابية” يحاول الرئيس ميقاتي تكريسها بكلّ طاقته، بتغليب “التفاؤل” على ما عداه، والبناء على ما يظهر من مؤشّرات “مشجّعة”، قافزًا فوق تلك “السلبيّة أو النافرة”. لكنّ العبرة تبقى مرّة أخرى بحقيقة مواقف الكتل الأخرى، والتي ستبدأ بالظهور بشكل جدّي في الساعات المقبل، بعيدًا عن جو الاستشارات العلنيّة، التي أضحت “استعراضيّة” في جانبٍ كبير منها!.