كتب حسين طليس في موقع “الحرة” مقالاً تحت عنوان: “حين تتحول المنازل إلى قبور.. “هجرة المازوت” تستفحل في لبنان”، وجاء فيه:
يعاني اللبنانيون تقنينا قاسيا للكهرباء، يتخطى في كثير من المناطق عتبة الـ20 ساعة يوميا، ويعود إلى النقص الحاد في مخزون البلاد من المحروقات، ما أفضى إلى انخفاض كبير في إنتاج معامل توليد الكهرباء، المنخفض أصلا بالنسبة لحاجة البلاد.
في الوقت ذاته، أدى انقطاع مادة المازوت إلى توقف المولدات الخاصة التي اعتاد اللبنانيون الاشتراك بها لتغطية ساعات تقنين الكهرباء المزمنة.هذه الأزمة خلقت ظاهرة نزوح داخلي في البلاد، بدأت منذ نحو أسبوعين، واستفحلت في الأيام الماضية، هربا من العتمة والحر، وسعيا خلف الكهرباء والمحروقات، إذ يستضيف اللبنانيون بعضهم بعضا، أصدقاء وأقارب، كل حسب ساعات التغذية الكهربائية، والمولدات التي لا تزال تعمل في المناطق، أو حسب قرب أماكن العمل ومحطات المحروقات.
ليال بلا نوم
تتخطى درجات الحرارة في بيروت 34 درجة مئوية، مع نسب رطوبة مرتفعة، ما يجعل النوم ليلاً شبه مستحيل في منازل تعتمد الكهرباء لتكييفها وتبريدها، ويتفق كل من روى تجربته لموقع “الحرة”، أن ساعات الليل هي الأكثر صعوبة خلال اليوم، إذ خاضوا، دون استثناء، تجربة قضاء ليلة أو ليلتين بلا نوم، بسبب الحر الشديد، وعبروا عنها بتشبيهات مختلفة.هيام، على سبيل المثال، استيقظت وهي تشعر كأنها “في ساونا”، فيما يصف علي تجربته بقوله إنه كان “يغرق بعرقه”، أما نجوى فقد كان تأثير الظلام عليها أكبر، إذ شعرت في سريرها كأنها “في قبر مغلق”.علي معاوية، 38 عاما، اضطر للنزوح مع عائلته عن منزله في منطقة فرن الشباك إلى منزل أحد أصدقائه في الأشرفية حيث لا يزال صاحب المولد الخاص يملك مخزوناً محددا من مادة المازوت، يغذي عبره مشتركيه بالكهرباء.لم يطل أمد هذا المخزون في الأشرفية. فبعد يومين فقط انتقل كل من علي وصديقه إلى منزل أحد الأقارب في منطقة طريق المطار. للمبنى هناك مولده الكهربائي الخاص، وباتت 3 عائلات تقطن في منزل واحد هربا من العتمة والحر.يروي علي في حديثه لموقع “الحرة” كيف يتقاسمون، هو وأصدقاؤه، تكاليف شراء المازوت الذي يحتاجه المولد الكهربائي، وكيف يمضي نصف نهاره بحثاً عن “المادة المفقودة” من الأسواق اللبنانية، حيث يؤمنها من السوق السوداء التي يباع فيها بأسعار مضاعفة 3 مرات عن السعر الرسمي.ويبلغ سعر صفيحة المازوت في لبنان 57500 ليرة، إلا إن الحصول عليها بهذا السعر بات ضرباً من المستحيل بسبب نقص المادة وعمليات احتكارها التي رفعت سعر صفيحة المازوت في لبنان إلى 140000 ليرة، في حين لا تزال الدولة اللبنانية عاجزة عن استيراد كميات إضافية لتغذية السوق، بسبب عدم فتح مصرف لبنان للاعتمادات اللازمة للاستيراد، وذلك نتيجة الضعف الحاد في تأمين الدولارات لذلك.ويعيش لبنان أزمة خانقة ارتفع معها سعر صرف الدولار مقابل ليرة اللبنانية أكثر من 10 أضعاف، الأمر الذي زاد من صعوبة الحصول على الدولار، وندرته في الأسواق نتيجة فقدان الثقة بالعملة الوطنية، واللجوء إلى الأميركية كضمانة ثابتة.وتعتبر الأزمة الاقتصادية في لبنان من أسوأ الأزمات وأكثرها تعقيدا في التاريخ، بحسب تقرير للبنك الدولي، انعكست في الداخل اللبناني على شكل أزمة اجتماعية حادة، بعد تضاعف كبير بأسعار السلع الغذائية والمواد الرئيسية كالمحروقات والأدوية، وتخطت معدلات الفقر نسبة 55% من السكان، فيما نسبة البطالة تتجاوز الـ40%.نزوح عابر للمحافظات
هيام، تعيش في منطقة الزهراني جنوبي لبنان وتعمل في بيروت. كانت تنتقل يوميا من عملها إلى مكان سكنها الذي يبعد نحو 40 دقيقة طمعا في الابتعاد عن زحام المدينة، وتوفيرا في إيجار المنزل في الجنوب، الأقل تكلفة من العاصمة.اليوم باتت تسكن مع شقيقها في الضاحية الجنوبية لبيروت لتتمكن من الوصول إلى عملها ممرضة في بيروت بسبب أزمة البنزين، حيث تعاني في توفير المادة، سواء لناحية القدرة المادية بسبب الارتفاع الكبير بأسعار المحروقات، أو بسبب الوقت الكافي لخوض طوابير الانتظار، في حين أن تكلفة النقل والمواصلات باتت باهظة نسبياً مع عدم إجراء تعديلات على الأجور في البلاد.ويبلغ الحد الأدنى للأجور في لبنان 675 ألف ليرة، كانت تساوي قبل الانهيار المالي 450 دولارا بحسب سعر الصرف الرسمي (1500 ليرة لكل دولار)، أما اليوم فهي تساوي 30 دولارا فقط، وفقاً لسعر صرف الدولار في السوق السوداء.ومن محافظات البقاع والشمال وجبل لبنان كما هو الحال في الجنوب، بدأت عائلات وأفراد بالانتقال للعيش في العاصمة، أو بشكل عكسي من العاصمة إلى قراهم، كلٌ حسب أولوياته ومكان عمله. واقتصدوا بالتنقل بين المناطق إلى أقصى حد، نظراً لتكاليف التنقل والمواصلات وأزمة البنزين الحادة، فبينما كانت تعرفة النقل من البقاع إلى بيروت تتراوح بين 5 آلاف ليرة و10 آلاف (الهرمل)، باتت الرحلة اليوم لا تقل عن 30 ألف ليرة، وتصل إلى 50 ألفاً للرحلة الواحدة ذهاباً أو إياباً.نجوى، 30 عاماً، لبنانية تعمل في مجال التسويق والإعلانات، انتقلت قبل أسبوعين من منطقة الحمراء، وسط بيروت، إلى بلدة الرميلة قرب مدينة صيدا، وذلك بسبب الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي في مدينة بيروت لأكثر من 20 ساعة في اليوم، مما خفض من إنتاجيتها وعرقل عملها القائم بمعظمه على تقديم الخدمات “أونلاين”، لاسيما بعد جائحة كورونا التي رسخت مفهوم العمل عن بعد.تشرح نجوى أن “بيروت الإدارية لم تكن مشمولة في الماضي بساعات التقنين الطويلة للكهرباء مثل التي كانت موجودة في باقي المدن والمحافظات اللبنانية، وعلى هذا الأساس جئت من صيدا إليها، وانتقلت من أجل الكهرباء، لكنها اليوم انضمت بفعل الأزمة الحادة، وفيما كانت باقي المناطق اللبنانية سبق أن تعاملت مع الانقطاع القديم وأقامت شبكات تغذية من المولدات الخاصة، لم يكن الأمر نفسه في بيروت الإدارية، مما عرض أهلها لساعات طويلة دون وجود بديل، وشل المدينة وحياة سكانها.””نلاحق الكهرباء لننجو”
ولأن الكهرباء تمثل عنصرا حيويا ورئيسيا لاستمرار حياة الإنسان في القرن الـ21، فإن انقطاعها بات يمثل تهديداً لعدد كبير من المواطنين على مستويات عدة، بعضها يهدد استقرارهم، وروتينهم اليومي، وحياتهم المهنية، وبعضها الآخر يصل إلى حد تهديد حياتهم، كما هو الحال مع المرضى وأصحاب الحاجات الصحية الخاصة المرتبطة بالكهرباء، الذين باتوا يلجؤون إلى أماكن عامة مثل المساجد والمطاعم والمولات التجارية من أجل تشغيل آلات التنفس وشحن الأجهزة الصحية.وتقول نجوى لموقع “الحرة”: “أعمل من منزلي مما يتطلب مني صباحاً أن أكون حاضرة على حاسبي وعلى اتصال مع فريق العمل والإدارة، الأمر الذي يحتاج إلى إنترنت وكهرباء بطبيعة الحال، على مدى الشهر الماضي انخفضت إنتاجيتي أكثر من النصف بسبب ساعات التقنين الطويلة، لجأت إلى المقاهي المحيطة في بداية الأمر، لكن اليوم بات كوب عصير البرتقال يكلف 30 ألف ليرة، وفنجان القهوة 15 الفاً، ومع دوام يمتد لأكثر من 6 ساعات بات يكلفني الجلوس في مقهى نحو 100 الف ليرة، وهذا غير مقبول نسبة لدخلي من العمل، أضف إلى ذلك أن انقطاع المازوت لاحقاً فرض انقطاع الكهرباء حتى على المولدات الخاصة بالمصالح والمقاهي والمطاعم، وعدت إلى نقطة الصفر.”وتتابع “إن كنت تعمل أو لا تعمل، دخلك بالليرة أو بالدولار، الأمر نفسه في بيروت، الأزمة تخطت الدخل الفردي وباتت في مرحلة متقدمة أكثر حيث لا يحصل أحد على الخدمات لأن القطاعات انهارت بالفعل، فما كان أمامي إلا الرحيل عن المدينة، أنا حالياً إنسانة تلاحق الكهرباء”.من جهتها تروي كاتيا لموقع “الحرة” قصة نزوحها من منزلها الكائن في طرابلس، إلى منزل صديقتها نيكول في جونية، وذلك بسبب انقطاع الكهرباء عن المدينة لأيام متواصلة، فيما تعاني كاتيا من نوبات ربو تزداد حدة مع ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة.عادت كاتيا إلى منزلها بعدما كانت في بيروت منتصف ليل الجمعة، وخلال استخدامها المصعد الكهربائي انقطع التيار ولم يعمل المولد الخاص بالمبنى بسبب نفاد مادة المازوت، “بقيت 40 دقيقة حبيسة مصعد بعد منتصف الليل أضرب على الباب الحديدي ليسمعني الجيران ويفعلوا شيئاً، بعد نحو 20 دقيقة هستيرية استيقظ أحد الجيران وراح يتحدث معي، إلى أن استفاق الباقون وصعد الناطور إلى المبنى الذي يرتفع 8 طوابق، كانت 20 دقيقة أخرى قد مرت، كنت فيها أهدأ وبحالة انتظار مع نوبة ضيق بالتنفس أحاول السيطرة عليها”.”خرجت بعدما رفعوا المصعد بشكل يدوي، وكنت بدأت أشعر بعوارض نوبة ربو، هرعت إلى المنزل لتشغيل جهاز التنفس ناسية تماماً للحظات أن الكهرباء مقطوعة، وعندما دخلت إلى المنزل المعتم استوعبت الوضع،” تقول كاتيا، “حملت اغراضي في اللحظة نفسها، تناولت بخاخات التنفس، تركت منزلي وعدت بسيارتي إلى جونية حيث منزل صديقتي، ومنذ يوم الجمعة حتى اليوم لازلت أقيم هناك، لأن الكهرباء لم تعد بشكل مستقر إلى المدينة، ولست مستعدة للمخاطرة بحياتي في تجربة أخرى كهذه”.وكانت مدينة طرابلس قد شهدت في الأيام الماضية موجة احتجاجات وقطع طرقات في المدينة، بسبب انقطاع التيار الكهربائي، كما شهدت المدينة ظاهرة جديدة قد تحمل أبعاداً أمنية، تتمثل في إطلاق النار بالهواء بشكل كثيف في مناطق مختلفة من المدينة وبتوقيت متزامن تعبيراً عن الاحتجاج بعد انطفاء كافة المولدات الكهربائية الخاصة.موقع “الحرة” تواصل أيضا مع نيكول صديقة كاتيا، التي كانت بدورها تنام في منزل كاتيا لليال عدة خلال الأسابيع الماضية، لكونها قريبة من محطة بنزين تقدم خدمة تعبئة مميزة لسكان المبنى المجاور ولبعض الجيران، وكانت كاتيا تساعدها في ذلك مرتين في الأسبوع على الأقل، وعليه ترى “أنه من الفوائد النادرة للأزمة أنها زادت من تكافل الناس وتعاضدهم، ولو على مستوى صفيحة بنزين وكهرباء ومازوت، فهذا هو طابع معاناتنا الجديدة”.قلق وانعدام حلول
“نمت مرتين في 5 أيام، أعاني من أرق وقلق بشأن كل ما يجري من حولنا”. تقول كاتيا وتضيف “أشعر بالخوف من الاستيقاظ على انقطاع كهربائي، أشعر برغبة بالهروب في كل مرة تنطفئ فيها مصابيح المنزل بسبب انقطاع التيار الكهربائي، مجبورة على التخلي عن الاستقرار من أجل البقاء، أصدقائي هربوا من المدينة إلى الطبيعة كي يتمكنوا من النوم، وآخرون يفترشون الشرفات وسطوح المنازل”.”أعاني من قلق شديد بشأن مستقبلي وإنتاجيتي واستمرارية عملي”، تقول نجوى “وصلنا إلى وضع كارثي والأمور تتدهور، تستيقظ على حر شديد وتعرق بسبب انقطاع الكهرباء، وهو ما يعني حتما انقطاع المياه التي يتم نقلها إلى خزانات المنازل عبر مضخات كهربائية، بتنا نعاني كي نستحم، لنخرج من المنزل المظلم إلى مقهى مكلف، فقط لأقوم بعملي، أما التنقلات البعيدة فلا بنزين يكفيها”.”لأول مرة في حياتي أقولها إنني عانيت 4 سنوات من اكتئاب حاد، ومرت علي تجارب قاسية جدا عشنا حروبا وأثرها النفسي، اليوم أنا افضل على الصعيد الشخصي، لكن الوضع العام الذي أكابده يومياً أسوأ ما اختبرته في حياتي، شكل الناس وهي تتسول وتأكل من النفايات، أسعار السلع ووجوه الناس في الأسواق، طوابير الذل على محطات الوقود، فقدان الأدوية وحليب الأطفال، وأخبار المحتكرين والمستثمرين في الأزمة، أصبح كل ما أريده الرحيل عن هذا المكان، طموحاتي في لبنان باتت مياه وكهرباء وبنزين وأدوية، أوصلتنا المنظومة الحاكمة إلى حد منعنا من وقت الراحة في بيوتنا وأجبرونا على هجرها مشردين خلف حاجاتنا الرئيسية”.