على رغم أجواء التفاؤل بقرب ولادة الحكومة لا يزال معظم اللبنانيين، الذين ينفخّون على اللبن لأنهم إكتووا بالحليب، يتمسكون بمقولة الرئيس نبيه بري “ما تقول فول حتى يصير بالمكيول”، مع أن الجهود التي يبذلها الرئيس المكّلف نجيب ميقاتي هي فوق المستوى العادي بإعتراف جميع المعنيين بعملية المفاوضات، التي وصلت إلى “أمتارها الأخيرة”.
وعلى رغم أن إشاعة الأجواء التفاؤلية مطلوبة اليوم أكثر من أي يوم مضى، فإن محاذرة عدم الإقدام على أي دعسة ناقصة مطلوبة بالقدر نفسه، بإعتبار أن أي نكسة حتى ولو كانت “صغيرة” قد تصيب اللبنانيين بخيبة أمل كبيرة غير محسوبة النتائج. فجميع اللبنانيين، وهم غرقى، يتمسّكون هذه الأيام حتى بحبال الهواء، إعتقادًا منهم بأنهم سينجون. فكيف الحال إذا كانت هذه الحبال هي من ألياف متينة، وهذا ما يحرص عليه الرئيس ميقاتي في مفاوضات الربع الساعة الأخير، التي تبدو أكثر دقّة مما سبقها من مفاوضات البداية، لأن ثمة مبادىء لا يمكن المساومة عليها، مع ما يمكن أن يترتّب من نتائج عن كل خطوة لا تكون على أرض صلبة.
من هنا نعتقد، إستنادًا إلى بعض الإيحاءات غير الرسمية، أن مفاوضات “الأمتار الأخيرة” لن تكون سهلة، ولكنها ستكون حتمًا تأسيسية لمرحلة ما بعد التشكيل، لأن ما يُبنى على الصخر يمكنه مقاومة الأعاصير، وهي ستكون كثيرة وشديدة، وأن البداية الصحيحة ستؤدي من دون أي شك إلى نهاية صحيحة.
ما ينتظر هذه الحكومة، التي لا بدّ من أن تبصر النور في نهاية المطاف، الكثير من العمل، والكثير من التحدّيات، والكثير من العقد والعراقيل، ولكن وفي الوقت ذاته وبالتوازي سيكون مسار الحكومة، وهي ستكون على الأغلب فريق عمل متجانسًا، مسارًا تصاعديًا وفق روزنامة أولويات محدّدة سلفًا تأخذ في الإعتبار الواقع المأزوم الذي يعيشه جميع اللبنانيين من دون إستثناء.
فما ينتظر الحكومة العتيدة مما يمكن تسميته “إنجازات”، بإعتبار أن أي خطوة يمكن أن “تدفش” اللبنانيين صعودًا وتجعلهم يخرجون من عمق أعماق الهاوية، ولو بالسنتمترات، تُعدّ إنجازًا بحدّ ذاته، قد يحتّم على الجميع التأني في توزيعة عادلة ومتوازنة للحقائب، وبالأخص الأساسية منها، مع أن العمل الجماعي مطلوب في هذه الظروف أكثر من ذي قبل، وبالتالي فإن عملية إختيار الأسماء لتولي الحقائب الوزارية من ذوي الكفاءات والإختصاصات والأكفّ النظيفة ستكون عملية دقيقة للغاية. فكل وزير يقبل بما سيسند إليه من مهام في هذه الظروف الصعبة، بل والخطيرة، هو مشروع فدائي، تمامًا كرئيسهم.
فمن شرب بحر الأشهر التسعة لن يغصّ بساقية أسابيع لا تتعدّى عدد أصابع اليد. المهمّ أن يقتنع الجميع بأنهم لا يملكون ترف الوقت، الذي لا يسمح لأحد ممارسة “هواية” الدلع او النكد السياسي، لأن النيران المستعرة قد تطال كل يد لن تكون بمثابة خرطوم ماء تساهم في إطفاء الحريق.
الرئيس ميقاتي، كما هو معروف عنه، باله طويل ويأخذ ويعطي في الأمور القابلة للأخذ والردّ، هو الفرصة الأخيرة وخشبة الخلاص. فلا تهشّلوه. لا تضعوا أمامه العراقيل. لا تجعلوه ييأس ويقنط. الوقت لا يسمح لأحد بأن يبدّي مصلحته الشخصية على مصلحة الوطن. الوطن أولًا، وإنقاذه أولوية. هذا هو هدف الرئيس المكّلف فلا تضيّعوا البوصلة. سهّلوا مهمته إلى أقصى الحدود. بادلوا التحية بإحسن منها. ردّوا على الإيجابية بأخرى. لا تدفعوه إلى حافة الإعتذار. إن فعل فسيبقى البلد من دون حكومة إلى أن يحين موعد الحساب.
التاريخ لن يرحمنا جميعًا. وعندها لن يستثني الشعب من غضبه أحدًا. وسيكون الحساب عسيرًا، وستكتب في كتب التاريخ كل الوقائع،على بشاعتها، على رغم أن البعض سيحاول تزوير هذا التاريخ.