نقول في التراث العربيّ: “من رابع المستحيلات” ضربًا من التعظيم، فلا يوجد سوى ثلاث مستحيلات، هم العنقاء أو طائر الفينيق، والصديق الوفي، والغول. على مرّ العصور، أثبت لبنان كيف ينفي هذه المستحيلات، فهو طائر الفينيق الّذي ينبعث مجدّدًا من النار مع كلّ أزمة، وهو الصديق الوفي لجميع جيرانه والمجتمع الدوليّ على الرغم من استحالة توحيدهم تحت مطلب واحد، فعلى خلافهم يرغبون في نجدته… وفي الفترة الأخيرة، حطّم لبنان الاستحالة الثالثة، وظهر غول العتمة من جديد في القرن الحادي والعشرين، إذ ضربت الظلمة جميع بقاعه بما فيه قلْب عاصمته النابض بعد أن زادت ساعات التقنين عن ٢٠ ساعة يوميًّا.
انبثق هذا الغول مع تعثّر استيراد المشتقّات النفطيّة “المدعومة” وارتباط أسعارها بالدولار الأميركيّ، فأصاب قطاع الكهرباء بالشلل. وداهم هذا الوحش المرعب اللبنانيّين مباغتًا إيّاهم جميعًا من دون استثناء، من فقيرهم حتّى كبار مستثمريهم… فالمال لم يعد حلًّا عند تبخّر المازوت والبنزين وندرتهما. ما كان مستحيلًا في عصر التكنولوجيا والاتّصال والانترنت، أصبح ممكنًا في بلدٍ كان يتغنّى في كونه منارة الشرق علمًا وحضارة. فاليوم، ومن بعد عقودٍ على استعمال الهاتف والمصباح الكهربائيّ وغيرها من كماليّات الحياة الّتي تشمل الانترنت والدراسة عن بعد، يهدّدنا هذا الغول بانقطاع لبنان عن التواصل وانعزال البلد عن العالم.
دَبّ الرعب في قلوب اللبنانيّين الّذين دأبوا منذ زمنٍ طويل على استنكار عجز مؤسِّسة كهرباء لبنان في القيام بعملها، “باستثناء تربية الدواجن على السطح”… إذ كانت هذه المؤسِّسة سبب عجزٍ متراكم في ميزانيّة البلد وصل إلى ٤٠ مليار دولار أميركيّ ضمن لعبة تقاذف المسؤوليّات بين الفرقاء السياسيّين جميعهم، والمساهمة في الدين العام بما يقارب الـ ٢ مليار دولار أميركيّ سنويًّا.
بالطبع، تبرز الحلول البديلة لتخلّص الدولة من عجزها في تزويد الأراضي اللبنانيّة بالكهرباء، فعلى الرغم من وصول شبكة إمداد الكهرباء إلى جميع بقاع لبنان تقريبًا، إلّا أنّ شحّ المشتقّات النفطيّة واتّساع الهوّة بين سعر الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركيّ، كبّل أصحاب المولّدات، وأضافهم نوعًا ما إلى طبقة العاطلين عن العمل بسبب تصرّفات الدولة اللبنانيّة، فهي لم ترحم اللبنانيّين ولن تدع رحمة الآخرين تحلّ عليهم.
كان السؤال في الماضي القريب: كيف للحكومة الجديدة الموكل تأليفها إلى الرئيس نجيب ميقاتي أن تحلّ مشكلة الهدر في قطاع الكهرباء؟ لكن يبدو أنّ مهمّتها اليوم تكمن في إيصال الكهرباء أوّلًا، ثمّ التفكير بوقف الهدر، وذلك عن طريق إعادة هيكلة قطاع الكهرباء وتطويره بعد تهالكه بسبب الحرب اللبنانيّة وحرب العام ٢٠٠٦، وإيجاد الحلول لمشاكل إدارة البنية التحتيّة، وتنظيم عمليّة الجباية، وتعديل تكلفة الإنتاج مقابل التعرفة الحاليّة.
يتغذّى غول العتمة ويشتدّ من الفساد المستشري في لبنان، فمن الوقود المغشوش، إلى ملفّ البواخر، إلى المعامل المشغَلّة بالفيول، إلى حلم استخراج النفط، لذلك يضرب الغول بقوّة جميع القطاعات الأساسيّة والحيويّة في لبنان، إذ في “سويسرا الشرق” لا برّادات تضمن الأمن الغذائيّ وسلامته، ولا مستشفيات تساعد على تطبيب المواطنين وعلاجهم، ولا مصارف تستطيع تزويد اللبنانيّين بمدّخراتهم وعمليّاتهم الماليّة، ولا أطفالهم سيستطيعون أن يتنقّلوا إلى مدارسهم، ولا أن يدرسوا عن بُعد.
هكذا يجد المواطن نفسه لا في نفق، بل في كهفٍ مسدود لا يسمع فيه سوى صدى صرخاته ممّا يزيده ذُعرًا وشللًا. كيف له أن يخرج من ظلمته وهو يعلم أنّ تكلفة صيانة المحطّات الكهربائيّة وما تشمله من زيوت، وقطع غيار وغيرها، هي أيضًا تحتاج إلى الدولار النادر؟
قد يُبصر اللبنانيّ (الفرد، والمستثمر، والصناعيّ) بصيص نورٍ عن طريق أنظمة الطاقة البديلة (الطاقة الشمسيّة مثلًا) أو وحدات الطاقة غير المنقطعة (UPS)، وغيرها من الحلول، إلّا أنّ تشعبّ هذه المصادر وارتفاع تكلفتها واحتكارها في معظم الأحيان، يُدخل اللبنانيّ في متاهة الفواتير والتكلفة والصيانة، إن كان قادرًا في المقام الأوّل على دفع تكلفتها الباهظة، وفي ذلك الكهف يستذكر الإنسان القديم، ويستحضر طرق الإنارة القديمة من الشمع رجوعًا إلى احتكاك الأحجار، وعيش “الحضارة” لحظة مولدها.
بين الشركات الكبيرة القادرة على دفع تكاليف الطاقة البديلة، وحفنة من اللبنانيّين الميسورين، قد تتوجّه الحكومة الجديدة إلى البحث عن مِنحٍ استثماريّة للطاقة الخضراء ومصادر الطاقة المستدامة من دولٍ صديقة قد تخلّص لبنان من إدمانه المشتقّات النفطيّة على المدى القصير، وتساعده إلى حين حصوله على الغاز الطبيعيّ على المدى المتوسّط والبعيد. كذلك يمكن أن تستغلّ رغبة المانحين الدوليّين لإعادة هيكلة قطاع الكهرباء والطاقة، بالتغلّب على الخلافات القانونيّة، وشحّ الموارد، وعدم الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ.
في ليالينا الحارّة والمظلمة، نتساءل: هل يتوقّف لبنان عند المستحيلات الثلاث المعهودة؟ أم أنّ لديه مستحيلات ثلاث جديدة هي: تشكيل الحكومة، والقضاء على الفساد، ضمان العيش الكريم في البلد من دون البحث عنه في المهجر؟ هذه التساؤلات الوجوديّة مشروعة ولا تنبع من عدم، لأنّنا نلتمس مع كلّ أزمة تشابك المصالح الشخصيّة وتغلّبها على المصلحة العامّة، فكم من مهنة قد وجدت في الأزمات، وكم من أزمةٍ زادت من الشرخ بين اللبنانيّين وتوسيع رقعة الامتيازات والتبعيّة السياسيّة!