“سابقة واستنسابية”.. هل وقع التحقيق بانفجار مرفأ بيروت بفخّ “التسييس”؟

27 أغسطس 2021
“سابقة واستنسابية”.. هل وقع التحقيق بانفجار مرفأ بيروت بفخّ “التسييس”؟

فيما كانت البلاد تترقّب اجتماع رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف تشكيل الحكومة نجيب ميقاتي لعلّ “الدخان الأبيض” يتصاعد منه أخيرًا، انشغل اللبنانيون بخبر “مذكّرة الإحضار” التي أصدرها المحقّق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، بحقّ رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، لا سيّما وأنّها شكّلت “سابقة” من نوعها، ورسمت الكثير من علامات الاستفهام.

 
للوهلة الأولى، وفي الشكل، يبدو مثل هذا الإجراء “الاستثنائيّ” حدثًا نوعيًا، إذ إنّها من المرّات النادرة التي “يتجرّأ” فيها قاضي تحقيق على كسر “المحظورات”، من خلال الإصرار على “استهداف” كبار المسؤولين في الدولة، وصولاً إلى رئيس الحكومة نفسه، بدليل مسارعته لإصدار “مذكرة الإحضار” بعد رفض الأخير المثول أمامه، استنادًا إلى اقتناعه بأنّ المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء هو المرجع الصالح.

 
لكن، في المضمون، بدا هذا الإجراء، برأي كثيرين، “منقوصًا”، ما أوقعه في فخّ “التسييس” سلفًا، فلماذا حصر “المعركة” برئيس الحكومة فحسب دون سائر المسؤولين الذين يشاركونه “التهمة” نفسها، والذي أعلنوا صراحةً أنّهم علموا بأمر نيترات الأمونيوم قبل تاريخ الانفجار المشؤوم؟ وهل يعود الأمر فقط لكون شاغل المنصب في الوقت الحاليّ، بنظر البعض، “بلا حماية”، ما يجعله “الهدف الأسهل”، والأكثر “شعبوية” ربما؟
 
“الاستنسابية” في مسار التحقيق
 
لعلّ علامات الاستفهام هذه تفسّر البيان الصادر عن رؤساء الحكومات السابقين، الذي بدا “قاسيًا جدًا” في رفضه خطوة المحقّق العدلي، واعتبارها “سابقة خطيرة بكلّ الأبعاد السياسية والوطنية والدستور”، بل “إجراء غير بريء يتسلق القانون وغضب أهالي الضحايا، لينال من موقع رئاسة الحكومة دون سواها من المواقع العليا في الدولة اللبنانية”.
 
ينطلق رؤساء الحكومات السابقون في “هجومهم الدفاعيّ” هذا، إن جاز التعبير، من مبدأ “الاستنسابية” في إحقاق العدالة، فرئيس الجمهورية “اعترف بأنّه قد علم بوجود هذه الكميات الكبيرة من الأمونيوم في عنابر مرفأ بيروت قبل 15 يومًا من تاريخ التفجير المريب”، لكّنه “تقاعس وامتنع عن القيام بأي عمل ذي قيمة عملية للحؤول دون حصول تلك الكارثة الإنسانية والاقتصادية والعمرانية التي حلّت بلبنان”، وفق ما جاء في بيانهم. 
 
بهذا المعنى، أراد رؤساء الحكومات السابقون تأكيد المؤكّد في بيانهم، فهم ليسوا ضدّ التحقيق، بل مع تحقيق العدالة كاملة دون نقصان، في جريمة لا يختلف اثنان على أنّها “أمّ الجرائم”، وأنّها لا يجوز أن تمرّ دون عقاب. لكنّهم يتمسّكون بحقّ اللبنانيين الطبيعيّ والبديهيّ في “العدالة الكاملة”، لا تلك المجتزأ أو المنقوصة، وبالتأكيد ليس بعدالة استنسابية أو انتقائية، تقوم على “استضعاف” مسؤول لا يوجد حزب وراءه، لصالح القفز فوق آخر “محصَّن”.
 
شبهات سياسيّة
 
لا يكتفي رؤساء الحكومات السابقون بالإشارة إلى “الاستنسابية” التي يراها البعض “فاقعة” في مسار التحقيق، ولو حصد “ترحيبًا شعبيًا”، لأنّ الناس تبحث عن أيّ شيء، يخفّف الجرح النازف منذ الرابع من آب 2020. في بيانهم، يتحدّثون كذلك عن “شبهات سياسية” في قرار المحقّق العدلي، كونه “يتقاطع مع محاولات للانقلاب على اتفاق الطائف وكسر هيبة رئاسة الحكومة وتطويق مكانتها في النظام السياسي”.
 
قد يعتبر البعض الأمر مُبالَغًا به، لأنّ المسألة قضائيّة صرف، والمُستهدَف بها، وفق ما يرى هذا البعض، ليس موقع رئاسة الحكومة، بقدر ما هو شخص رئيس الحكومة الذي كان يتولى زمام الأمور التنفيذية يوم الانفجار المشؤوم. لكنّ هذا “التبسيط” لا يبقى قائمًا، متى وُضِع في سياق عام من الممارسات التي تتقاطع بمجملها عند “استضعاف” رئيس الحكومة، والذي يرى البعض أنّه وصل إلى “ذروته” في ظلّ “العهد” الحاليّ، ولا سيما في العامين الأخيرين.
 
وقد لا يكون تفصيلاً في هذا السياق حرص رؤساء الحكومات السابقين تضمين بيانهم شكوى من “تعطيل تشكيل الحكومات وتطويق الصلاحيات الدستورية للرؤساء المكلفين”، لأنّ الأمر بمنطقهم واحد، وضمن مخطّط متكامل، بدءًا من “مصادرة” صلاحيات رئيس الحكومة، إلى محاولات “ابتداع” اجتهادات دستورية لـ”تقييد” رئيس الحكومة المكلف، وصولاً إلى “ابتكار” سحب التكليف، وأخيرًا وليس آخرًا، “الاستفراد” به دون غيره قضائيًا.
 
ثمّة من بدأ الحديث عن مسار لـ”تنحية” المحقّق العدلي انطلاقًا من ادّعاءاته على سياسيّين وأمنيّين، تمامًا كما حصل مع “سلفه” القاضي فادي صوان. الأكيد أنّ المطلوب ليس ذلك على الإطلاق، لما ينطوي عليه من “دفن” للعدالة، بل على العكس من ذلك، المطلوب “تحصين” القاضي، عبر منع كلّ التدخّلات السياسية، وفرض العدالة الشاملة والكاملة، التي تتعامل مع الجميع من باب “المساواة”، دون استضعاف هذا أو استفراد ذاك…