لا يُمكن لأي أحدٍ أن ينفي “سوداوية” المشهد الذي سيدخله لبنان في حال عدم تشكيل حكومة قادرة وفاعلة، تمرّر الإصلاحات المطلوبة وتكون الباب الأول لإدارة الأزمة ومفتاح العبور نحو المساعدات الدولية.
ورغم كل العراقيل التي تواجه تحقيق التشكيل، فإنّ هناك أمران يجبُ عدم تجاهلهما أبداً ويُعتبران بطاقة الحل، ومن دونهما لا يتحقق وقف الانهيار. وهنا، فإن من يقرأ كلام الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي الأخير عبر قناة “الحدث”، يوم الجمعة الماضي، ويُراجع كلام الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في اليوم نفسه بمناسبة الذكرى السنوية الرابعة لتحرير الجرود الشرقية، ستبرزُ أمامه مسألتان: الأولى تحدّث عنها ميقاتي ومرتبطة بدعوته لتحرّك جامعة الدول العربية لمساعدة لبنان، في حين أن المسألة الثانية طرحها نصرالله ومرتبطة بفك الولايات المتحدة الأميركية حصارها عن لبنان ووقف التضييق الذي تُمارسه، على حدّ قوله.
وفي ما خصّ المسألة الأولى، فإن ميقاتي كان واضحاً بشأنها ولم يتردد أبداً في تصويب اتجاه لبنان نحو الحُضن العربي، لأن ذلك مطلوب بشكل كبير.
وفي حين أن لبنان غاب عن طاولة البحث في قمة بغداد للتعاون والشراكة التي عُقدت يوم أمس السبت، فإنّ الأمين العام لـ”جامعة الدول العربية” أحمد أبو الغيط تلقف دعوة ميقاتي بإيجابية، ودعا إلى الإسراع في تشكيل حكومة بلبنان تنفذ الإصلاحات اللازمة بشكل فوري، باعتبار أن ذلك سيُمكن المجتمع العربي والدولي من الانخراط بفعالية في إنقاذ لبنان ودعم الشعب اللبناني.
ومن دون أدنى شك، فإن بقاء لبنان وحيداً من دون غطاء عربي سيجعله ينهار أكثر وسيكون عرضة لـ”خطر الزوال” الذي حذّر منه ميقاتي. وهُنا يطرح السؤال نفسه: لماذا لم تتحرك جامعة الدول العربية لتنفيذ أي مبادرة بشأن لبنان؟ لماذا لا تُعقد اجتماعات طارئة لتدارس الوضع القائم وعقد العزم على ضخ مساعدات مالية لإنقاذ الاقتصاد اللبناني؟ لماذا لا يُتخذ قرارٌ عربي جامع لمنع انهيار لبنان وكيانه؟ هل المطلوب مُعاقبة كل لبنان بسبب ممارسات لم تلتزم بسياسة النأي بالنفس التي أطلقها ميقاتي قبل سنوات وتبنتها الدولة اللبنانية؟
في الواقع، فإن تلك السياسة (أي النأي بالنفس) هي التي يجب النظر إليها باعتبارها خطوة جريئة من لبنان الرسمي لرفض أي ممارسات تعارض التوجه العربي. ولهذا، فإن الدول العربية يجب أن تتعامل مع لبنان على هذا الأساس وأن ترى توجه غالبية اللبنانيين وإرادتهم.. هل هُم لا يريدون الحضن العربي؟ هل يؤيدون الانغماس في أي صراعٍ إقليمي أو دولي؟ لهذا، فإنه من الضروري أن يكون هناك موقف رسمي جديد من الدولة اللبنانية ليؤكد إرادة لبنان بالبقاء ضمن المحيط العربي، وهذا ما أكد عليه ميقاتي بقوله إنه سيسعى جاهداً لتحقيق ذلك. وهنا، فإنه مع تشكيل حكومة وإعلان موقف رسمي واضح بهذا الشأن، يجب أن يلقى لبنان مبادرات سريعة وواقعية وفعالة من الدول الشقيقة تساهم في منع الانهيار ووقف حد لاندثار الكيان والمجتمع اللبناني.
أما الأمر الأهم فهو الفصل بين ما يريده “حزب الله” وما تريده باقي الشرائح الأساسية في لبنان. وفي ظل ذلك، فإنه ثمة من يقول إن التضييق – إن حصل- يجب أن يكون موضعياً لأن الانهيار الاقتصادي والمالي يطال شعباً بأكمله وليس فئة معينة أو محدّدة. كذلك، خرجت العديد من الأصوات لتقول أن الفيدرالية هي الحل، وثمة من يروّج إلى فكرة أنه لحل أزمة لبنان، يمكن أن يكون هناك تقسيم وإقامة ولايات عديدة. وحتماً، فإن البعض يرى أنه في حال كان “حزب الله” يهدد لبنان ولكن لا يمكن انهاء وجوده، فلتكن هناك مبادرة لجعل منطقته خاصة به على أن يكون قرارها ذاتياً، وليقم ببناء المقدرات الحيوية التي يريدها. وعندها، فليكن التعاطي معه موضعياً لأن له حكومته الخاصة وعندها فليُمارس الضغط عليها بشكل منفصل عن الحكومة المركزيّة لكامل الدولة.
وفي الحقيقة، فإن هذا الأمر بات يبرز في ذهنية الكثير من اللبنانيين، وإن تحقق، فسيكون قد كرس خارطة جديدة للبنان، وسيكون قد وضعنا أمام تقسيم جديد يطرح نفسه باستمرار منذ سنوات عديدة.
ماذا عن الحصار الأميركي؟
وفي ما خصّ المسألة الثانية التي طرحها نصرالله، فإنّ مفتاح حلّها قد يبدأ من خلال تشكيل حكومة واضحة الاتجاه، لا تعرقل عملها أي جهة سياسية من أجل الاستئثار بالقرار أو لتحقيق مكاسب انتخابية. وحتى الآن، فإنّ الإدارة الأميركية تدعو إلى تحقيق تشكيل حكومة بأسرع وقتٍ ممكن باعتبارها الباب الأول لإنجاز إصلاحات تساهم في وقف الانهيار، ومن دون حصول ذلك فإنه لا قيمة للمساعدات من دون أرضية واضحة تساهم في حفظها وإدارتها.
أما الأمر الأهم هو أن المساعدات لم يجرِ منعها عن لبنان، وما يحصل هو أن المؤتمرات الدولية التي أقيمت مؤخراً تؤكد عزم المجتمع الدولي على ضخّ الأموال لمساعدة لبنان، وهذا ما تمّ فعلاً. ومع هذا، فإنّه ما من حصار دولي على تحويل أموال إلى لبنان، فالدولار يدخل إلى البلاد عبر المصارف ولكنه لا يكفي لوقف انهيار كامل. كذلك، فإنّ ميقاتي عندما تحدث عن “ضمانات عربية ودولية” للمساعدة عند تشكيل حكومة، فإن ذلك يعني أن الجميع مستعدّ للوقف إلى جانب لبنان من أجل وقف انهياره.
في المقابل، فإن هناك العديد من الأمور أرهقت الدولة وجعلتها تنهار مثل الفساد الإداري والاختلاسات والهدر في قطاع الكهرباء والمحسوبيات والسياسات المالية الخاطئة وضرب القطاعات الانتاجية والتجارة غير المشروعة والتهريب والاحتكار. وفعلياً، فإن كل هذه الأمور لم تأتِ بسبب حصار أميركي أو قرار عربي بمعاقبة لبنان، ومن خلال معالجتها يبدأ الإصلاح وعبر ضرب مكامن الفساد ومحاسبة الفاسدين يُمكن التأسيس لمرحلة جديدة تعيدُ الثقة إلى الدولة اللبنانية بعدما وجد المجتمع الدولي أنها مفقودة تماماً.