“الجحيم أرحم”.. مأساة أم تبحث عن النجاة من بيروت

9 سبتمبر 2021
“الجحيم أرحم”.. مأساة أم تبحث عن النجاة من بيروت

نشرت قناة “الحُرّة” تقريراً جديداً تحت عُنوان “الجحيم أرحم.. مأساة أم تبحث عن النجاة من بيروت”، وجاء فيه:
“للوهلة الأولى يبدو مدخل بيت فادية بخاري، في حيّ فقير بمنطقة أرض جلول على الطريق الجديدة ببيروت كأنه بيت مهجور تماماً، تركه أصحابه وغادروه منذ زمن.

وهناك روايات كثيرة عن أناس دمرتهم الأزمة الاقتصادية تماماً، فادية يبدو التعب عليها قبل أن تتكلم وحتى من دون أن تنزع عن وجهها الكمامة لتظهر خطوط الحزن الممتدة من المنزل إلى أول الشارع حيث تفرش مع شقيقها أكياس البطاطا “التشيبس” كي تبيعها لتؤمن غذاءها.وفادية واحدة من كُثر، من غالبية، تُعاني ما تعانيه بسبب الأزمة التي يمرّ بها لبنان، والتي لا يبدو أن لها أي أفق أو ضوء يطل من نفق يزداد ظلمة كُل يوم.. قصص كثيرة وويلات تكبر يوماً بعد يوم. أناس كانوا بالأمس يعيشون حياة مقبولة نسبياً صاروا اليوم يبحثون عن الفتات.

الجولة في المنطقة وحدها تكفي لكشف كمّ تعاني. الفقر في كُل مكان. أحياء تكدست فيها الناس كما كدسوا الخضار على البسطات المبعثرة في شوارع اختفى فيها الإسفلت تحت الغبار وأكوام القمامة الموزعة على جوانب الطرقات، وفي محيط حاويات صارت مكبات.وتخرج فادية من طريق ضيق لتدل إلى منزلها، الذي لا يدخله النور، وغادرته الكهرباء منذ زمن. تعيش مع ابنها محمد (23 عاماً) في ظروف تصفها بالصعبة، ولكنها أكثر من ذلك بكثير.وبحسب “الحرة”، فإن الظروف الصعبة هذه، تنذر بالأرقام مما يتجه إليه اللبنانيون، إذ يتوقع البنك الدولي أن يرتفع معدّل الفقر في لبنان ليطال أكثر من نصف السكّان خلال عام 2021، وهو ما يتوافق مع توقّعات منظمة الإسكوا التي أشارت إلى ارتفاع معدّل الفقر من 28% إلى 55% بين العامين 2019 و2020، وبلوغ العدد الإجمالي للفقراء بحسب خطّ الفقر الأعلى نحو 2.7 مليون نسمة، أرقام قد لا تعني فادية لأنها مثال حي عما تُحذر منه المنظمات الدولية والإغاثية.وقبل شهرين، دفنت فادية، 50 عاماً، زوجها مصطفى البنا.. مشت مع نعشه من المنزل إلى مدافن الخاشقجي، رمت عليه السلام الأخير وعادت لتواجه المستحيل كأن تدفع بالتقسيط، حتى اليوم، إيجار فتح المدافن.وقبل موته، عانى “الحج مصطفى” من تعب كليتيه وكان يغسلهما أسبوعيا، على مدى 15 عاماً وهو يفعل ذلك وهي تراه أمامها يذبل شيئاً فشيئاً إلى أن تعطل كبده وفارق الحياة عن عمر 55 عاما.ووضعت فادية لزوجها صورة صغيرة على رف تضع عليه بعض الأكواب، واحتفظت بصوره الكثيرة في مراحل حياته على هاتفها، تُقلبهم، تتذكره حين كان عريساً وحين كان يمتلك محل سمانة يعيشون منه جميعاً، دون أن يكونوا بحاجة لعناية أحد.15 سنة تعتني بزوجها، إلى أن غادرها.. خلال السنتين الأخيرتين، وبعدما تدهورت صحته، اضطرت أن تلازمه في المستشفى، فتراجع العمل في المحل حتى أقفلوه، ليفتحوا بابهم لأيام سوداء، كسواد البيت، أو الغرفة التي تقطن فيها اليوم مع ابنها.. غرفة لا تتعدى 5 أمتار، وضعت مع ابنها حاجياتهما خلف ستار كبير، القليل من الأحذية والملابس، براد صغير تضع الخبز وقناني المشروبات الغازية التي تبيعها مع أخيها، وعلبة صغيرة فيها القليل من اللبن، كانت قد اشترتها ليأكلاها على العشاء مع رغيفي خبز تركهما لهما شقيقها بعد أن أنهى غداءه من الفول. والفول وجبة تبقيه يوماً كاملاً من دون الحاجة للأكل مرة أخرى.أما الغرفة التي لا تصلح للحياة، غينامان فيها كُل على أريكة مهترئة، ويصحوان على وجع الظهر بعد أن يغفيا من شدة التعب. وإلى جانب باب الغرفة من الداخل وضعت كومة من الكراسي، تسند بها الباب ليلاً لأنها لا تستطيع إصلاح القفل. أما الحمام فهو مفتوح على مطبخ لا يتجاوز المتر والنصف، تطبخ فيه الأرز والعدس وتسلق البطاطا. هذا كُل ما يُمكنها أكله مع ابنها في هذه الأيام.وعلى الغاز الذي لا يعمل منه سوى عين واحدة، وضعت طنجرة “مقلوبة”، وهي أكلة فيها الأرز والباذنجان واللحم، جلبتها لها جارتها أم علي التي تتذكرها أسبوعياً بـ”طبخة كبيرة” تكفيهما ليومين أو ثلاثة.وحين وصلت “المقلوبة”، أرسلت ابنها محمد مع كوب كبير إلى الدكان ليملأه لبناً بقيمة 5 آلاف ليرة، لأن العلبة الكبيرة يبلغ ثمنها 25 ألفا، وهي طبعاً لا تملك هذا الترف.وقبل يومين، جلبت فادية الخبز الإفرنجي لتتناوله على الغداء مغمساً بما تبقى لديها من زيت الزيتون والملح. وأثناء حديثها عن مأساتها، لا تتوقف فادية عن شكر الله، وتقول إنه لن يتركها، إيمانها به يُبقيها صامدة وسط كُل هذا البؤس، واثقة هي رغم أن كُل ما حولها وكُل ما تعيشه لا يُشجع على بناء أي ما له علاقة الثقة.وتنتظر فادية، مثلها مثل غالبية اللبنانيين، البطاقة التمويلية، التي أقرت اليوم الخميس بعد طول انتظار. بطاقة تؤمن للفرد 25 دولاراً أميركياً شهرياً لمدة سنة، مع الغلاء الحاصل يُرجح ألا تُحدث الفارق الكبير الذي تحدث عنه المشرفون عليها. فادية وابنها سيحصلان على 50 دولاراً، أي نحو 900 ألف ليرة بحسب سعر السوق السوداء اليوم، فادية تدفع إيجار منزلها/غرفتها فقط 500 ألف ليرة.كذلك، تنتظر السيدة أن تأتي الكهرباء ساعة كُل 24 ساعة كي تستطيع شحن هاتفها وتنظيف الغرفة والاستحمام بصابون بلدي تقتصد باستعماله لأنها لا تستطيع شراء الشامبو. كذلك يفعل ابنها محمد الذي لا يتكلم كثيراً، وإذا فعل يظهر وكأنه يكاد ينفجر بكاء.وإلى جانب هذا، تُخزن فادية المياه في غالونات صغيرة تحسباً لانقطاع المياه، فهي لم تدفع للدولة منذ زمن، وتعيش يومياتها في انتظار أن يقطعوا عنها الإمداد. وإلى الآن لم يفعلوا، لكنها تنتظر الأسوأ دائماً، من دون أن تكون حاقدة على أحد، ببساطة لا وقت لديها للحقد ولا للوم حتى. همّ فادية أن تؤمّن إيجار المنزل، الغرفة. “لا أحد يموت من الجوع، ولكنني لا أريد أن يرمونني خارج هذه الجدران على رداءتها. مجرد التفكير في هذا الأمر يجعلني ارتعد خوفاً”، تقول.ومع هذا، فإن نواب المنطقة لم يردوا عليها، الوزراء أيضاً، وتضيف: “يأتون إلينا وقت الانتخابات ثم يختفون. نموت جوعاً ولا يكترثون. لا أنتظر منهم الآن أن يصحو ضميرهم”.وحين تدهورت أحوالها وساء وضع زوجها، تناوبت بعض الجمعيات على التكفل بتغطية المبلغ الذي يتوجب عليها دفعه كفارق تغطية وزارة الصحة. وفي الواقع، هذا كُل ما حصلت عليه. ومع هذا، فقد قدمت طلب إعالة في صندوق الزكاة عقب وفاته، لكن لا أحد اتصل بها إلى اليوم، ولو أرادوا المساعدة لفعلوا.. وببراءة تقول: “الأرجح أنهم منهمكون لأن الأزمة زادت العبء عليهم”.ماذا تريد فادية؟ تُجيب: “خذوني من هذه البلاد. لا شيء آخر. تعبت ولم تعد لدي طاقة على الصمود.. عشت عمري أحارب كي أحيا. استُنزفت كُلياً ولم أحيا، هذه ليست حياة. الجحيم أرحم”.