سبعة أشهرٍ تقريبًا تفصلنا عن الانتخابات النيابية والبلدية والاختيارية وبعدها رئاسة الجمهورية، لكنها كلها تختلف عن سابقاتها، خصوصًا بعد ثورة 17 تشرين، بسبب الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد. فقد تحوّل المشهد من صراع سياسي إلى صراع طبقي، بعدما دمرت الظروف الاقتصادية القاسية شرائح المجتمع كافة، وعززت الكراهية تجاه السلطة وأركانها وأحزابها التقليدية.
ونتيجة تلك التحركات الشعبية، وتبنّي فكرة التغيير وإسقاط السلطة، واستعدادًا للاستحقاق الانتخابي القريب، بدأت المكنات الانتخابية للمجموعات التي وُلدت من رحم الثورة، وجبهاتٍ سياسية، والأحزاب التي تعتبر نفسها جزءا أساسيا من الثورة بدأت جميعها تتحضر لخوض تلك المعركة، مستفيدة من الظروف الاقتصادية والاجتماعية والنقدية كي تستثمر في المزاج الشعبي الغاضب، الذي لفظ الزعامات السياسية وأحزابها، وكسر “التابو” السياسي، بعدما كان يُظنّ أنه غير قابل للكسر.
والديمقراطية هي الوسيلة الأفضل في مسار التغيير في لبنان، لأن طبيعته المجتمعية والديموغرافية ونظامه السياسي، أثبت عبر التاريخ أن ثوراته لا تنجح، وغير قابلة للاستمرار.
إن فلسفة الديمقراطية تقرّ بقوة الشعب وانبثاق السلطة عنه، لكن هذا المسار يحتاج إلى ظروفٍ معينة واستثنائية، كي تغيّر في مزاج الناس تجاه السلطة، خصوصًا في دولنا المشرقية التي ترفع في ظاهرها شعار الديمقراطية بينما تصطدم في جوهرها بالبيروقراطية القادرة على إنتاج ثورة مضادة، وتقوم بسرقة النصر الذي تحققه الديمقراطية.
ففي مصر سنة 2012، وصل الرئيس محمد مرسي إلى سدة الرئاسة منتخبًا من الناس، ومؤيداً بشرعية شعبية، وبالرغم من طبيعة النظام المصري شبه الرئاسي، باعتبار أن الكثير من الصلاحيات يملكها الرئيس، وهو القادر فعليًا على اتخاذ قراراتٍ تؤثر في تصحيح المسار والتغيير السياسي، لكن ذلك لم يحصل، فلم يكن الرئيس مرسي قادراً على أن يأمر ضابطاً صغيراً بسبب البيروقراطية التابعة للنظام السابق. صحيح أن الثورة المصرية أسقطت السلطة، إلا أنها لم تستطع المس بالدولة العميقة المتمثلة بالجيش المصري. وفي تونس حققت الديمقراطية تغييراً هائلاً في النظام والمشهد السياسي، فكانت نموذجاً يُحتذى به، لكنها أيضاً أصطدمت بالثورة المضادة، وحصل الانقلاب.
أما في لبنان، فإن المشهد مختلف، إلا أن النتيجة المتوقعة ستكون شبيهة بما حصل في عدة دول عربية، فلو افترضنا أن القوى التغييرية خاضت المعركة الانتخابية، وحققت فوزًا ساحقًا في المقاعد النيابية، فلن يكون التغيير الذي نحلم به جميعًا سيد الموقف، وذلك بسبب البيروقراطية والدولة العميقة التي تسيطر عليها أحزاب السلطة بشكلٍ شبه كامل، وهنا تكمن خطورة الموقف. فما حصل مع الرئيس محمد مرسي قد يتكرر في لبنان، حيث حكم مدة عامٍ واحد، وهي فترة قصيرة جدًا قياساً بحجم الفساد الذي وُلد مع دولة مصر الحديثة الناشئة مع ثورة 52، واستطاعت البيروقراطية إلقاء اللوم على الرئيس المُنتخب حديثًا، واتهامه بالتقصير، وعدم نجاحه في تحسين الأوضاع الاقتصادية. وهذا ما قد يحصل في لبنان، فقد تسعى السلطة إلى إيصال بعض الوجوه التغييرية بغير إرادتها، وبهدف إيقاعهم في فخ البيروقراطية المتجذرة في كل مؤسسات الدولة، وبسبب ضعف الخبرة فلن يستطيعوا أن يحققوا التغيير الذي يطمحون إليه، وقد تندلع الثورة المضادة بقيادة الأحزاب التقليدية في وجه الثورة الأصيلة، لتسقط مرة جديدة التجربة الديمقراطية الحقيقية في وجه البيروقراطية. قد لا تستطيع أي قوة سياسية، وإن كانت في غاية التنظيم والانتشار، تحقيق المسار الديمقراطي، والتغيير المرجو، إلا من خلال اختراق المؤسسات، والتي تعتبر جيوش السلطة، من موظفي الإدارات والمرافق العامة، وهذا يُعتبر أكبر تحدٍ للقوى التي تحمل شعار التغيير، كي تتمكن في حال نجاحها في الانتخابات النيابية من البقاء في السلطة لفترةٍ طويلة.