توازيًا مع وتيرة العمل السريعة داخليًا، التي ينتهجها منذ نجاحه في تأليف الحكومة، بعد مخاضٍ استمرّ 13 شهرًا، لم يتأخّر رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي في إطلاق عجلة المشاورات الخارجيّة، حيث يحطّ الخميس في العاصمة الفرنسية باريس، على أن يلتقي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجمعة.
لا شكّ أنّ الزيارة مهمّة واستثنائيّة، في الشكل والمضمون، فهي تتجاوز مبدأ “العرفان بالجميل” الذي حصرها به البعض، من باب “شكر” الرئيس الفرنسي على المبادرة التي أفضت أخيرًا لتأليف الحكومة، بل تصل في جوهرها إلى إطلاق النقاش الجدّي بـ”أجندة” المرحلة المقبلة، من الإصلاحات الحكوميّة، إلى “الإفراج” عن المساعدات الوعودة، وهنا بيت القصيد.
لكنّ الزيارة تتزامن مع تطوّر دوليّ نوعيّ يتفاعل منذ أيام، وقد اصطلح على تسميته بـ”أزمة الغواصات”، تلك الأزمة التي انعكست سلبًا بشكل مباشر على العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة، ما دفع كثيرين إلى التوجس، عن “الثمن” الذي قد يدفعه لبنان، بعدما كان محصَّنًا لفترة طويلة، بما قيل إنّه “تنسيق” فرنسي أميركي، مبنيّ على “تفاهم” مشترك وواضح.
تداعيات “محصورة”
لا ينكر أحد أنّ العلاقة الفرنسية الأميركية تأثّرت بالأزمة التي نشأت عن ولادة ما سُمّي بـ”الحلف الجديد” الذي جمع الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، التي تخلّت بموجبه عن “صفقة غواصات” كانت قد أبرمتها مع فرنسا، بعد حصولها على “مُرادها” من جانب الإدارة الأميركية، الأمر الذي أثار “غيظ” باريس، التي وصفت ما حصل بـ”الخيانة والغدر”.
ولعلّ الكلام الذي أطلقه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في هذا الصدد كافٍ ووافٍ، فهو ذهب إلى حدّ المقارنة بين ما فعلته إدارة بايدن، وما فعله “سلفه” الرئيس دونالد ترامب، الذي لم يقم بشيء من هذا القبيل، في وقتٍ يتناوب المسؤولون الأوروبيون على إبداء “استيائهم” الكبير ممّا حصل، محذرين من أنه يعرّض العلاقات الأميركية الأوروبية لخطرٍ قد لا يكون “مسبوقًا” بهذا المستوى.
ومع أنّ البعض ذهب إلى حدّ الاعتقاد بأنّ الفرنسيين يمكن أن يفكّروا بـ”الانتقام” من بايدن، في الشرق الأوسط تحديدًا، وربما من بوابة لبنان، يؤكد العارفون أنّ تداعيات ما حصل تبقى “محصورة” على الساحة اللبنانية، حتى إثبات العكس، لا سيما أنّ هناك “توافقًا ضمنيًا” على كيفية معالجة الملف اللبناني، فضلاً عن “شبه إجماع” على أنّ الكرة في ملعب اللبنانيين، وتحديدًا الحكومة الجديدة، للمباشرة بالإصلاحات.
اهتمام فرنسي مستمر
قد يعتقد البعض أنّ “أزمة الغواصات”، بانعكاساتها المباشرة على التحالفات الإقليمية والدولية، قد تدفع فرنسا إلى تغيير “قواعد اللعبة”، إن جاز التعبير، على خطّ العديد من “نقاط التقاطع” بينها وبين الولايات المتحدة، ولبنان جزء منها بطبيعة الحال، لكنّ هذه الهواجس “بدّدها” سريعًا على ما يبدو تحديد قصر الإليزيه لموعدٍ لرئيس وزراء لبنان، بعد ساعات فقط على نيل حكومته الثقة من البرلمان اللبناني.
يرى البعض أنّ هذا التفصيل ليس “شكليًا”، خصوصًا أنّ تحديد الموعد جاء في ذروة أزمة الغواصات، التي كان الرئيس الفرنسي يستطيع “التذرّع” بها لتأجيل الموعد، باعتبار أنّ الملف اللبناني لا يحتلّ “الأولوية” في هذه المرحلة، لكنّه أراد من ذلك تأكيد استمرار الاهتمام الفرنسي بلبنان، وتمسّك باريس بـ”خريطة الطريق” التي سبق أن أعلنتها، وطلبت من اللبنانيين أن ينفّذوا ما يتوجّب عليها بمقتضاها، حتى يلاقيهم المجتمع الدولي في منتصف الطريق.
صحيح أنّ اللقاء قد يندرج في إطار “جسّ النبض”، ليس إلا، وقد يتجاوز هذا البُعد ليشمل “النقاش” بالخطوات المُنتظَرة في الأيام المقبلة، مع بدء الحكومة جلساتها، وإطلاق المفاوضات مع صندوق النقد، وإقرار خطّة تعافٍ جديدة مغايرة لتلك التي عملت عليها الحكومة السابقة، إلا أنّ أهميته تكمن هنا تحديدًا، إذ إنه يدحض كلّ ما يُحكى عن أنّ الفرنسيين صرفوا النظر عن لبنان، ويؤكد أنّ أبواب “الإنقاذ” قد تُشرَّع أمام لبنان، إذا لم يفوّت هو الفرصة.
لم تَحُل “أزمة الغواصات” دون التحضير للقاء الرئيس الفرنسي مع الرئيس نجيب ميقاتي، المرتقب الجمعة، وهو لقاءٌ قد لا يكون من المفيد المبالغة بالرهان عليه، لحدّ التكهّن بنتائج مباشرة له، لكنّه بلا شكّ يؤسّس لما هو مقبل، ويؤكد أنّ المبادرة الفرنسية مستمرّة عمليًا، فالحكومة تشكّلت بمقتضاها، وبرنامجها الوزاري انبثق من “روحيّتها”، وخريطة طريق “الإنقاذ” قد تنطلق منها، إذا لم “يتطوّع” أحد لزرع الألغام في الطريق!