إذا أراد أي محلّل سياسي أن يتحدّث عن الزيارة التي قام بها الرئيس نجيب ميقاتي لباريس ولقائه الرئيس الفرنسي لأمكنه كتابة أكثر من مقال حول معانيها وأهدافها ونتائجها المعنوية والمادّية، القريبة المدى والمتوسطة والبعيدة.
ما يهمّنا في بادىء الأمر أن نشير إلى أن الزيارة بحدّ ذاتها هي حدث إستثنائي، إذ لم يسبق أن قام أي مسؤول لبناني آخر، سواء أكان في السدّة الرئاسية الأولى أو الثالثة، بزيارة مماثلة إلى الخارج فور تسلّمه مسؤولياته الرسمية. فلم يمض على نيل حكومة “معًا للإنقاذ” سوى أيام حتى تقرّر موعد الزيارة، على رغم الإنشغالات الكثيرة للرئيس إيمانويل ماكرون، دوليًا وإقليميًا، سواء بالنسبة إلى صفقة الغواصات مع استراليا، والعلاقة المتوترة بين باريس وواشنطن، إو بالنسبة إلى موقع فرنسا من الحديث عن عودة المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وأهمية أن يكون لها حضور في الإقليم يوازي ثقلها السياسي والإقتصادي.
حتى ولو كانت المقارنة غير متكافئة فإن الرئيس حسّان دياب، وبعد أكثر من سنة على ترؤسّه حكومة “مواجهة التحدّيات”، كانت له زيارة يتيمة لقطر. وهذا ما يقود البعض إلى فتح أكثر من مزدوجين حول أهمية الزيارة التي قام بها الرئيس ميقاتي لباريس، ممّا يؤشّر إلى أن الملفات العالقة للأزمة التي يعانيها اللبنانيون، وهي كثيرة، ستفتح تباعًا، ووفق خطّة مدروسة بتأنٍ ودراية وبعيدًا عن الديماغوجية والغوغائية و”البروباغندا” غير المجدية. من هنا كان تشديد رئيس مجلس الوزراء، وهو المحترف فن العمل السياسي، وخاصة في أقسى الظروف وأصعبها، وفي أول يوم بعد تشكيل الحكومة، على عدم إسترسال الوزراء بكثرة الأحاديث، طالبًا منهم الإنكباب على العمل، وترك نتائج أعمالهم تتحدّث عنها. فالوقت هو للعمل وليس لكثرة الكلام.
فكما كانت زيارة باريس أسرع من رمش العين هكذا ستكون المعالجات لأكثر من ملف حسّاس ومتروك منذ سنوات من دون أي معالجة جذرية، ومن بين هذه الملفات الأكثر إلحاحًا وأهمية، ملف الكهرباء، شاغل الدنيا والناس معًا.
فإذا إستطاع الرئيس ميقاتي النجاح في معالجة هادئة لملف الكهرباء، وبمساعدة خارجية أكيدة وبتعاون مرجّح من معظم الأفرقاء السياسيين، يكون قد فتح الطريق واسعة أمام معالجات لاحقة وسريعة لكثير من الملفات، والتي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بأزمة الكهرباء، ومن بينها مسألة المحروقات.
وفي هذا المجال، من المتوقّع أن تشمل الزيارات التي سيقوم بها إلى الخارج عددًا من الدول العربية، وبالأخصّ الخليجية منها، والتي سبق لها أن أبدت إستعدادها لمساعدة لبنان، حيث أمكن. وفي الإستنتاج الشخصي، وإنطلاقًا من معرفة متواضعة بطريقة مقاربته للقضايا الشائكة، يرجّح أن يحصر الرئيس ميقاتي محادثاته الآنية مع الملوك والأمراء والرؤساء العرب على جانب واحد، وهو كيفية مدّ لبنان بالمحروقات تباعًا، على أن يلي ذلك الحديث عن تشجيع الإستثمارات العربية في أكثر من مجال إنمائي وعمراني في لبنان، سواء على المستوى الرسمي، أو على المستوى الخاص لعدد كبير من رجال الإعمال والمستثمرين، الذين يعترفون بأن الساحة اللبنانية هي مكان جيد للإستثمار، خصوصًا إذا ترافق ذلك مع إستصدار بعض القوانين التي تشجّع المستثمرين العرب أو الأجانب، ولا سيما المغتربين مهنم، على الإستثمار في لبنان، مع ما يمكن أن تقدّمه تلك التشريعات الحديثة والمتطورة من تسهيلات على أكثر من صعيد، وقد سبق لعدد من الدول التي كانت أوضاعها تشبه الأوضاع اللبنانية الصعبة أن أقدمت على هكذا خطوات، التي أثبتت الوقائع بالتجربة الحسّية نجاحها.
وقد تكون التجربة الماليزية أكبر مثال لما يمكن أن يُقدم عليه لبنان في حال تضافرت كل القوى وإقتنع الجميع بضروة إجراء عملية إنقاذية فورية وسريعة قبل فوات الآوان. فإذا أردتم أن تنجحوا فأقتدوا بتلك التجربة.