كتبت نوال نصر في “نداء الوطن” أقل من أسبوع وندخل في الشهر الخامس عشر على إنفجارٍ طيّر صواب العالم، وجعل من ليس له حتى قلب يرتعد. فليس بسيطاً ابداً ما حدث. ليس بسيطاً أبداً أن تُغتال عاصمة وينهمر الدم شلالات وتسقط البيوت على ناسها وتتطاير الجثث ويتشلع اللحم وتتبعثر العائلات وتموت الأم حزناً فوق جثة إبن وابنة ويسقط الوالد والأخ والإبن في متاهة القهر الأبدي. لم يكن بسيطاً أبداً ما واجهناه عصر يوم الرابع من آب. ليس سهلاً أن ننسى. ولن ننسى. وكأن إعلان وفاة الضحية إبراهيم حرب بعد معاناة شديدة وطويلة من إصابة طالته ذاك الغروب أعادت فتح كل الجروح دفعة واحدة. ولكن، هل عرفت “دولتنا” به وهو يتخبط 14 شهراً في سريره؟ وهل سرت ولو قشعريرة بسيطة في أبدان من يعملون ليل نهار لطمس حقيقة ما حصل أم ان الحجارة بلا قلب ولا ضمير وهم ليسوا إلا حجراً يابساً… يابساً؟
القاضي طارق البيطار كان في كل مرة يتحدث فيها عن التحقيق ينظر من شباكه، نحو السماء، وكأنه يرى ما يراه كل الأهالي الحزانى مردداً: يا لهول ما يعيشونه. هو شعر بهم أكثر من كل الآخرين واستخدم مطرقة العدل كرمى كل البائسين لكن هناك من يستمرون بالعبث بهم، بدماء الضحايا، وبأسى أهلهم، وبنا، وبكلِ وجع الشعب اللبناني. القاضي البيطار طالما قال وردد: لهؤلاء أعمل… لهؤلاء فقط… أعمل ليأخذ العدل مجراه. ويوم تبلغ هو رسمياً دعوى الردّ المقدمة لكف يده عن القضية تبلغ أهل الضحية ابراهيم حرب خبر وفاة ابنهم بعد معاناة مريرة شديدة. ارتاح ابراهيم. لكن ماذا عن أهل ابراهيم ورفاق ابراهيم واهل كل الضحايا الذين قضوا في تلك اللحظة، في اقل من لحظة، واهالي من يستمرون يتقلبون في أسرتهم مثل الطيور الذبيحة؟ ماذا عن صوت العدالة؟إبراهيم يعمل، أو بالأصح كان يعمل قبل غروب الرابع من آب محاسباً. كان دوامه قد انتهى للتوّ. وكان قد جهّز منزله ليتزوج ويبني أسرة ويُنجب أطفالاً. لكنه، منذ ذاك الحين، وهو يعيش جلجلته ويبني موقعاً في الجنة. رحل هو واستفاق اللبنانيون، أو من نسي من اللبنانيين وهم ينتظرون في طوابير الذل، من جديد الى مشهدية “الإغتيال” الذي تعرضوا جميعاً له. وراحوا يسترجعون الصور الهستيرية التي هزّت العالم ولم تهز رمش مسؤول. عائلة الشاب الضحية في ذهول “فالغالي راح” وهو من كان منسياً في غرفة شاحبة في مستشفى رزق في بيروت. لم ينتبه إليه أحد طوال 14 شهراً وكم في أقبية المستشفيات وفي الغرف الشاهدة على كمّ الوجع بعد، من ضحايا يعانون. تُرى هل كان يعرف مسؤول، أي مسؤول، بوجود ابراهيم مصطفى حرب ينازع؟ نشك.
إبراهيم حرب… ضحيّة جديدة. هو عنوان لكثيرين لكنه جلجلة لابراهيم وأهل ابراهيم وخطيبة ابراهيم. وكما يقال الجمرة لا تحرق إلا مكانها. لكن، موت ابراهيم، جدّد “الجمرات”، اشعلها، رمى عليها البنزين، فعامت من جديد آلام الكثيرين. رولا الطبش، نائبة بيروت، حيث انتمى وعاش وأصيب ومات ابراهيم، نعته على السوشال ميديا: “أنعي وابكي واحداً من أسرة العمل زميلاً موظفاً في مكتبي لم نعرف منه غير التفاني والإخلاص والمحبة”… وختمت: “نعمل من أجل العدالة لروحك وأرواح كل ضحايا تفجير المرفأ”. لا بُدّ أن يكون ابراهيم قد ابتسم في نعشه لأول مرة من زمان بعدما سمع عن “عدالة” البعض الممجوجة.
مات إبراهيم. إرتاح. وأهله “المسالمون” مثله بكوا إبناً كان يعمل من الفجر الى النجر ليبني مستقبلاً لكنهم لم يرتاحوا. ولن يرتاحوا. مئات العائلات اللبنانية لن ترتاح. والعين بالعين والسنّ بالسن إذا لم يكن على هذه الأرض ففي يوم القيامة.