حتى محاولة السفر إلى خارج لبنان وإمكانية الاستحصال على الأوراق الرسمية المطلوبة باتت شاقة في هذه البلاد. طوابير الذل باتت في كل مكان، بدءًا من محطات الوقود (التي خفت بعد وصول تسعيرة صفيحة البنزين إلى أرقام قياسية) مرورًا بالصيدليات، وصولًا إلى أبواب الدوائر الرسمية.
مؤخرًا بات عدد من الدوائر الرسمية يفتح أبوابه يومًا واحدًا فقط أمام المواطنين بسبب ارتفاع أسعار المحروقات وعدم قدرة الموظفين على التوجه يوميًّا إلى مكان عملهم ما أدى إلى ازدحام كبير خصوصًا نتيجة بداية الموسم الدراسي والطلب المتزايد على جوازات السفر حتى باتت إخراجات القيد تباع بالسوق الموازية نظرًا لندرتها، كما أن جوازات السفر أصبحت بحاجة إلى وقت طويل للاستحصال عليها في الوقت الذي كانت تحتاج سابقًا نحو أسبوع على أبعد تقدير لإنجازها. أما إذا أردت أن تقدم طلبًا مستعجلًا، فالأمر كما كان عليه سابقًا من جهة التكاليف إذ بإمكانك أن تدفع 210 آلاف ليرة إضافية في دائرة العلاقات العامة للأمن العام في بيروت مع ما يترافق من بعض “الوسايط” خصوصًا في ظل الازدحام الكبير.
عشرات آلاف جوازات سفر لم تنجز
حتى وقت قريب كان هناك عشرات آلاف جوازات السفر (أكثر من 40 ألف طلب) التي لم يتم إنجازها بعد في لبنان نتيجة كثرة الطلب عليها، كما أن الدفعات التي يفترض أن تستلمها فروع الأمن العام في المناطق لم تعد تأتي كاملةً ما يتوجب على أصحاب الجوازات التي تأخرت أن ينتظروا أيامًا إضافية، وفي حال لم تعد تحتمل سفرتهم التأجيل فيكون حينها “أمرهم لـ الله” وسفرتهم المطلوبة خارج إمكانية الإنجاز حاليًّا على أمل بأن يعيدوا المحاولة لاحقًا.
تزامنًا مع ذلك، فإن عدد الطلبات المستعجلة لجوازات السفر في الدوائر التابعة للأمن العام في المناطق تقلصت، إذ إن بعضها بات يستقبل 20 أو 30 طلبًا مستعجلًا يوميًّا في حين كان يستقبل حتى 130 طلبًا مع ما يترافق ذلك من الانتظار لنحو الشهر للحصول على جواز السفر، الأمر الذي زاد التوجه إلى دائرة العلاقات العامة في بيروت للاستحصال على جوازات السفر خلال يومين تقريبا.
شبان هاربون من الطوابير
المشهد أمام دائرة العلاقات العامة للأمن العام في بيروت يشبه إلى حد ما مشاهد الطوابير التي عانى منها المواطنون أمام محطات الوقود. مواطنون قادمون من جبل لبنان وشماله وجنوبه لفرصة الحصول على جوازات سفر بأقصى سرعة ممكنة. بدأوا يتوافدون منذ ساعات الفجر الأولى ليحجزوا دورًا لهم، فهناك لا يمكن القبول حاليًّا بأكثر من 200 طلب كما أن “الواسطة” أحيانًا تلعب دورها فبعضهم يحصل على رقمه من دون انتظار أو تعب وبعضهم الآخر يتمكن من تقديم مركزه ليتجنب مشقة الانتظار. أكثر الوجوه هناك من جيل الشباب الذي ينتظر فرصة لتأمين مستقبل كريم له بعيدًا عن بلد كل شيء فيه بخطر.
أحد الشبان قرر أن يسافر إلى رومانيا للعمل. وقال لـ”لبنان 24″ إنه مجبر على السفر ليؤمن مستقبله في ظل الوضع المعيشي الصعب، لافتًا إلى أنه كان يدرس الكهرباء لكنه ذاهب إلى رومانيا ليعمل في معمل حديد، آملًا بأن يستقر في رومانيا لأنه كما يقول: “ما عاد في شي حلو بلبنان”. ولفت الشاب إلى أنه حاول تقديم أوراقه في سرايا صيدا فأبلغوه هناك أنه يحتاج إلى شهر ليقدم الطلب لكن بـ”الواسطة” استطاع أن يستحصل على موعد قريب إلا أنه كان لا بد أن ينتظر شهرًا أيضًا ليستحصل على جواز السفر ما دفعه للقدوم إلى دائرة العلاقات العامة في بيروت.
جمال سلوم وعبدالله حلمي شابان آخران من سير الضنية في الشمال، لم يقدما طلب جواز السفر في سرايا سير الضنية لأن هناك يتم قبول 20 طلبًا مستعجلًا فقط يوميَّا كما يقولان، كما إنه في سرايا طرابلس فالطوابير كبيرة ولا يتم استقبال أكثر من 150 طلبًا مستعجلًا…ولم يستطع الشابان تحمل البقاء في لبنان بالرغم من أنهما يستكملان تحصيلهما العلمي. يقول حلمي: “هناك العديد من الأسباب التي دفعتنا لاتخاذ قرار السفر وأبسطها طوابير الذل التي نقف بها”، أما سلوم فهو أجبر على إقفال قهوته التي كانت تسنده ولم يعد يتحمل البقاء في لبنان.
ثلاثة شبان آخرون افترشوا الأرض وأجبروا لأن يبيتوا ليلتهم في أحد الطوابق غير المسكونة قرب الأمن العام لأنهم لم يستطيعوا أن يستحصلوا على أرقامهم في الليلة الماضية لأن العدد اكتمل. أحد هؤلاء الشبان علي حمود من منطقة طبايا في الجنوب المعيل لعائلته، كان يوزع الخبز في منطقته إلا أن أزمة البنزين دفعته إلى التوقف عن العمل وأجبر على بيع مجوهرات والدته لكي يدفع ثمن التذكرة إلى أربيل، كما إنه عانى كثيرًا ليتمكن من الحصول على إخراج قيد إفرادي.
إخراجات قيد تباع بأسعار عالية
هو ليس الوحيد الذي واجه صعوبات بالحصول على إخراج قيد إفرادي، فنتيجة شح الأوراق المتعلقة بإخراجات القيد الإفرادية التي تسلمها وزارة الداخلية للمراكز الرسمية بات من الصعب جدًّا الحصول على إخراج قيد بشكل سريع ما دفع بعض العاملين في الدوائر الرسمية إلى استغلال هذا الوضع لبيع إخراجات القيد في السوق الموازية بسعر مرتفع. ويقول أحدهم في هذا الإطار: “كنت بحاجة إلى إخراج قيد إفرادي بشكل سريع لكي أقدم على جواز السفر إلا أنني لم أكن لأتمكن من الحصول عليه لو لم أدفع 100 ألف ليرة”، في حين يقول آخر أن مختار المنطقة طلب منه 60 ألف ليرة لبنانية لكي ينجز له إخراج القيد، أما شخص ثالث فأكد على أنه في حال استحصلت على إخراج قيد إفرادي حاليًّا فتكون “بطلًا” وفق تعبيره، إذ إن سعر إخراجات القيد وصل إلى نحو 200 ألف ليرة كما يقول، في الوقت الذي كان يمكن الحصول على إخراج القيد بشكل شبه مجاني.
إن هذه المشاهد تعد عاملًا إضافيًّا من بين عوامل جمة تدفع الشباب لمغادرة لبنان، وصحيح أن الغربة صعبة، لكن كما يقول المثل: ما دفعني على المر إلا الأمرّ.