كاتب هذه السطور شاهد على حرب كانت مدّمرة لم تغيّر شيئًا في نمطية الحياة السياسية المسؤولة الأولى عمّا وصلنا إليه اليوم. صحيح أن حرب المدافع توقّفت، ولكن الحروب البديلة لم تتوقّف يومًا. وقد يكون ما حصل بالأمس في الطيونة أكبر دليل إلى أن جمر النفوس لا يزال يتأجج، وأن حرب الـ 75 لم تؤدِ إلا إلى مزيد من تأجيج النفوس، وإلى أن تلبس الطائفية البغيضة وجوهًا متعدّدة ومختلفة.
لا شك في أن إتفاق الطائف قد أوقف المدفع، ولكن “مدافع” الفتن المتنقلة، حتى ولو إتخذت في بعض الأحيان ظاهريًا أشكالًا أكثر سلمية، لم تتوقّف يومًا. وهذا ما كان يُعبَّر عنه بالعمل الدائم على تهديم أسس الدولة، والتوغّل أكثر فأكثر في منظومة الفساد، وهي أخطر بكثير من المنظومة العسكرية، وذلك من خلال تقوية مفهوم “الدويلات” بأشكالها المتعدّدة، في مختلف المناطق، وليس في منطقة حصرية دون سواها.
لا يختلف إثنان على أن إتفاق الطائف أنهى حقبة سوداء من تاريخ لبنان، ولكنه لم يستطع أن يؤسّس لدولة مدنية وعصرية متكاملة العناصر. فبقيت الطائفية، بما فيها من مساوىء، هي المسيطرة، في النفوس قبل النصوص. وبقيت الممارسات على الأرض متناقضة كلّيًا مع الشعارات التي كانت تُرفع، والتي لم تكن سوى ستارة لما كان كل فريق يخطّط له لتعزيز مواقعه وتحصين قلاعه السياسية، وحتى الأمنية. فالسلاح المتفلت، والذي رأيناه بالأمس فوق أسطح البنايات قنصًا، وعلى أرض المعارك قذائف “آر بي جي”، قد أصبح في حوذة الجميع، وتحت مسمّيات شتى. والأنكى من كل ذلك أن الجميع من دون إستثناء يدّعي الحفاظ على الدولة، فيما الحقيقة أنهم جميعًا يعملون، وكلّ على طريقته الخاصة، على تقويض أساسات هذه الدولة الهجينة.
ما حصل بالأمس، وهو أمر أكثر من خطير، لأنه كشف حقيقة الجميع، الذين رموا شعاراتهم القديمة في سلال المهملات والتاريخ غير المشرّف، وكشفوا عن وجوههم الحقيقية، وأثبت بما لا يقبل الشك أن التداوي بالأعشاب وبالمسكّنات لم يعد يجدي نفعًا، بل يفاقم الأمور ويدفعها إلى المزيد من التفاعلات المرضية السلبية.
ما حصل بالأمس في الطيونة، وقبلها في أكثر من منطقة لبنانية، أكدّ المؤكّد، وهو أن الجميع يعملون على تقوية “دويلاتهم” بكل مظاهرها على حساب الدولة المركزية وإضعافها وضرب هيبتها حيث أمكن، والعمل بكل الوسائل على إفقارها وزعزعة كياناتها السيادية والمادية والمعنوية والإقتصادية.
ما حصل بالأمس، سواء على الأرض أو من على أسطح البنايات، يجب ألا يمرّ وكأن شيئًا لم يحصل. ويجب أن تثبت الدولة أنها قادرة على أن تبسط سلطتها وهيبتها من دون الأخذ في الإعتبار أي أمر آخر سوى الحفاظ على سلامة المواطنين الذين يريدون أن يعيشوا في وطن يتساوى فيه الجميع أمام القانون.
المراهم والمسكّنات لم تعد تفيد بعد اليوم والمطلوب من الجميع، وعندما نقول الجميع لا نستثني أحدًا على الإطلاق، لا من هذه الجهة ولا من تلك، أن يقتنعوا بأن الدولة المركزية والموحدّة والقوية، بجيشها ووقواها الأمنية وقضائها ومؤسساتها، هي التي تحمي الجميع وإليها وحدها يجب أن يلوذوا، وبحماها يحتمون. فلا يجب أن يقتني أحد السلاح، تحت أي حجة، خارج السلاح الشرعي، الذي وحده يحمي الحدود والداخل، ويؤّمن الحماية للجميع من دون تمييز أو تفرقة.
لا تلعبوا بالنار. فهو يحرق أيدي الجميع، خصوصًا بعدما تبّين أن السلاح هو سيف ذو حدّين. الدولة هي للجميع. إحتموا بها وأجعلوها قوية، فنقوون بها وتقوى بكم. أمّا إذا بقي كل فريق متمترسًا خلف أكياسه الرملية فسيسقط هو وستسقط معه الدولة.