إستمعت إلى كلام الأمين العام لـ”حزب الله” سماحة السيد حسن نصرالله، كما إستمع إليه معظم اللبنانيين، وبالأخص المسيحيين منهم، بإعتبار أنه توجّه في قسم كبير من كلامه إلى “إخوتنا المسيحيين”، بتمعنٍ ومن دون خلفيات سياسية أو طائفية أو مذهبية.
لم أكثرث كثيرًا إلى الكلام السياسي الذي قيل في معرض سرده عن تبيانه كيف أن “القوات اللبنانية” هي العدّوة الأولى للمسيحيين، وكيف أن “حزب الله” هو المدافع الأول عن الوجود المسيحي، ليس في لبنان فحسب بل وفي سوريا أيضًا، لأن هذا النوع من الكلام أضعه في خانة الصراعات الإقليمية، التي لها إمتدادات واسعة على الساحة المسيحية.
بالطبع، وأنا أوافق السيد نصرالله في هذه النقطة، أنه ليس من مصلحة المسيحيين ولا من مصلحة أي طرف لبناني آخر نشوب حرب أهلية جديدة، ورأيي في هذا الموضوع معروف، ولي فيه أكثر من مقال، لأن قدر اللبنانيين أن يتعايشوا معًا، وذلك منذ أن قرر رجال الإستقلال تحييد لبنان عن صراعات الآخرين على أرضه، فكان شعار “لا للغرب ولا للشرق” عنوان المرحلة الذهبية التي عاشها لبنان منذ الإستقلال حتى العام 1975، بغض النظر عن حوادث العام 1958.
المشكلة الحقيقية التي يعيشها اللبنانيون عمومًا والمسيحيون خصوصًا أن الدولة، بكل مؤسساتها، لم تعد مصدر أمان إجتماعي لهم، وذلك بعدما نخرها الفساد وفقدت مقومات وجودها كضمانة للعيش المشترك. وقد يكون من بين اسباب إنهيار كيان الدولة اللبنانية أن كل مكّون من مكوناتها عمل على تقوية الشخصانية الطائفية والحزبية والمناطقية على حساب المواطنة، فأصبحت الطائفة والحزب والمنطقة هي الملجأ لكل فرد من أفراد المجتمع اللبناني بدلًا من أن تكون الدولة الجامعة والواحدة والموحدّة والقوية هي المرجع الصالح والملاذ لكل مظلوم ومهمّش ومقهور.
ولا مغالاة في القول إن جميع الأفرقاء كانت لهم حصص، ولو بنسب متفاوتة، في تهديم أسس هذه الدولة، التي أصبحت مشّلعة الأوصال ومشتتة الطاقات، وقد إستفاد كل طرف بقدر ما سمحت له الظروف من مشهدية إضعاف هذه الدولة، التي أصبحت لا حول لها ولا قوة، بإستثناء ما يقوم به الجيش والقوى الأمنية من خطوات للحفاظ على الحدّ الأدنى من الآمان الأمني.
مشكلة المسيحيين، يا سماحة السيد، أنهم في الأساس يعيشون في بيئة لم تعد تشبه تطلعاتهم، على رغم أنهم في تاريخهم القديم والحديث لم ينعموا بالإستقرار الذي ينشدونه، وعانوا الأمرّين يوم إلتجأوا إلى الجبال الوعرة هربًا من جور الإحتلالات المتوالية، ودفاعًا عن مقدّساتهم، فتحصّنوا في هذه الجبال وفي مغاورها مئات السنين، وقد عانوا ما عانوه من إضطهاد وتشريد وتنكيل.
فخوف المسيحيين لم يكن يومًا من الأيام من أخيه اللبناني، بل من التدخلات الخارجية التي عملت على تفرقة اللبنانيين من خلال اللعب على وتر الطائفية البغيضة. وهذا ما نجح به الخارج في حرب العام 1975، عندما إستعمل اللبنانيين بديلًا لحروبهم.
وللتذكير فقط حيث ينفع التذكير أننا لا نجد في قرانا عيشًا وطنيًا إلا في القرى التي فيها وجود للمسيحيين مع إخوتهم المسلمين، سنّة وشيعة ودروزًا. وليس من قبيل الصدفة أن القرى المختلطة هي فقط بين هذه الطوائف والطائفة المسيحية، وهذا دليل على أن المسيحيين لا يخافون من أخوتهم في المواطنة، بل هم في أساس قيام لبنان الكبير بمحافظاته وأقضيته الحالية، وإن كان قد بادر إلى الأذهان في مراحل معينة حلم “الوطن المسيحي” الممتد من كفرشيما إلى البترون، وهو كان إبن بيئته سرعان ما تلاشى حين دقت ساعة الحقيقة وإكتشف الجميع حتمية عيش اللبنانيين مع بعضهم البعض.هذا هو قدر اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، أن يعيشوا معًا في دولة مركزية قوية، وإن كان مطلب اللامركزية الإدارية يبقى مطلبًا يجمع عليه الذين يريدون إستمرارًا لهذا الوطن، بعيدًا عن مفهوم”الدويلات” البديلة.
هذه بعض من حقائق التاريخ… ومن له إذنان سامعتان فليسمع.