قد يقول البعض إن هذه النظرية، التي سوف تطّلعون عليها في سياق البحث عن مخرج ما لأزمة بهذا المستوى من التعقيد والخطورة، غير واقعية وغير منطقية وغير قابلة للحياة، وهي تجافي الحقيقة التي تجّلت أو تكاد بعد أحداث الطيونة، وما نجم عنها من مفاعيل سياسية قد لا تقّل مأسوية عن سقوط دماء في ساحات غير ساحاتها، وبعد كلام الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، وإتهامه رئيس حزب “القوات اللبنانية”، من دون أن يلفظ إسمه، بـ”المجرم والسفاح والقاتل”.
النظرية تقول، وهي كانت مطروحة حتى قبل يوم الخميس، الذي نعتبره أشدّ سوادًا مما سبقه من أيام سود عاشها اللبنانيون بكل مآسيها على فترات متقطّعة، إن الأزمة المستجدّة والمتفاقمة هي بين طرفين يمكن إعتبارهما الأكثر راديكالية في كلا الفريقين السياسيين المتناقضين في التوجهات والخيارات والنظرة إلى القضايا المطروحة على بساط البحث، وهما “حزب الله” من جهة، و”القوات اللبنانية” من جهة ثانية،على رغم إصرار الأخيرة على أن لا علاقة لها بما حصل في الطيونة، وهذا ما قاله الدكتور سمير جعجع لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون عندما إتصل به بعد قطيعة ثلاث سنوات بين الرجلين.
فهذان الفريقان اللذان يقفان على متناقضات متحرّكة يُعتبران الأقوى شعبيًا في بيئتيهما، بغض النظر عن شعبية “التيار الوطني الحر” مسيحيًا، والتي يبدو أنها في تراجع مستمرّ، وهما يعبّران عن حالات متنافرة في التوجهات وفي الأهداف والإستراتيجيات. وهذا ما تكّشف في اليومين الأخيرين اللذين تليا أحداث الطيونة، التي لا تزال التحقيقات جارية لكشف خفاياها وحقائقها، إذ بلغ التوتر السياسي بين “حزب الله” و”القوات” درجة عالية من التشنج، مع تبادل مباشر للإتهامات التي تخطّت السقف المعتاد، والذي كان الجميع يحرص على إبقائه تحت السيطرة على رغم كل الظروف الصعبة، التي كانت تمايز مواقف كل من الطرفين.
فهذه العلاقة المتوترة، وإلى حين جلاء حقيقة ما جرى في “الخميس الأسود”، تؤكد بما لا يقبل الشك أن ثمة مشكلة رئيسية وأساسية في العلاقة المباشرة وغير المباشرة بين مكونين لبنانيين لهما جمهور عريض يؤيّد طروحاتهما، ولهما تمثيل وازن في الحياة السياسية، على نقيضيهما، من خلال المجلس النيابي نتيجة إنتخابات نيابية أجريت على أساس القانون الإنتخابي نفسه، الذي عبرّ من خلاله كل طرف عن قناعاته، وعمل جاهدًا على إيصال ممثليه إلى الندوة البرلمانية، التي يُفترض أن تكون المكان المناسب أكثر من غيره للتعبير عن هواجس هذه الفئة أو تلك، وذلك توصلًا، من خلال الحوار العقلاني والبنّاء، إلى تقريب المسافات بين اللبنانيين، الذين لا تزال تجمعهم قواسم مشتركة كثيرة.
فالحوار يكون عادة بين مختلفين. وليس على الساحة اللبنانية أكثر من “حزب الله” و”القوات اللبنانية” خلافًا على أكثر من خيار، وإن فرضت الظروف في وقت من الأوقات أن تتلاقى نظرتهما في بعض الملفات، خصوصًا عندما كانت “القوات” مشاركة في الحكومات السابقة.
فلو كان هذان الفريقان متفقين فما كان للحوار جدوى. أما أن يكونا مختلفين، وهو أمر طبيعي في العمل الديمقراطي، فالحوار ضرورة لا بدّ منها، ما دام الطرفان يقرّان بحتمية العيش معًا في وطن واحد وتحت سقف واحد، وفي ظل قانون واحد.
إنطلاقًا من هنا، وبدلًا من أن يكون يوم الخميس في 14 تشرين الأول من العام 2021 يوم إفتراق وطلاق، من المفيد جدًّا أن تبرد الرؤوس الحامية، على رغم قناعة الجميع بأن الخطابات السياسية المرتفعة السقوف من هذه الجهة أو تلك، وآخرها كلام السيد حسن نصرالله، تفرضها الظروف الآنية، وهي تصبّ في خانة “تثمير الشعبوية” وإمتصاص النقمة الشعبية.
لا بدّ في نهاية الأمر، وبعد أن تتبلور الحقائق وتنكشف كل الملابسات، أن يعمل أصحاب العقول الراجحة من كلا الطرفين، على إيجاد أرضية صالحة لفتح حوار جدّي وعقلاني بين “القوات” والحزب، بعيدًا عن التشنجات المتقابلة، وعلى أسس واضحة لا لبس فيها، على أن تُطرح فيها كل الهواجس مرّة واحدة وأخيرة، والا يخرج المتحاورون إلا وهما متفقين إما على إكمال الطريق معًا على أساسات جديدة، وإمّا الإفتراق بالمعروف.
أمّا أن تبقى الأمور معلقة كما هي الحال اليوم فإن مصير الوطن يبقى على كفّ عفريت. وهي حال لا يمكن أن تدوم، وهي لا يمكن الإعتداد بها لبناء وطن المستقبل، وطن التطور والعلم والإزدهار والرقّي.
الفريقان حتى الآن يصرّان على أن هذا النوع من الحوارات هو من رابع المستحيلات، على رغم قناعاتنا بأن لا شيء مستحيلًا تحت الشمس، وبالأخص في السياسة، إذ لا عداوات دائمة ولا خصومات أبدية.
السيد نصرالله قال كل ما عنده، وحتمًا سيأتيه الردّ من معراب بالمباشر. ولكن لا هذا النوع من الكلام ولا ذاك الردّ يبنيان وطنًا.