أكبر نكسة دبلوماسيّة منذ استقلاله.. ماذا خسر لبنان سياسيًّا جراء أزمته مع الخليج

2 نوفمبر 2021
أكبر نكسة دبلوماسيّة منذ استقلاله.. ماذا خسر لبنان سياسيًّا جراء أزمته مع الخليج

بلغة الأرقام التي لا تحمل وجهتَي نظر، موجعة هي الخسائر المباشرة التي مُني بها الإقتصاد اللبناني جرّاء المقاطعة الخليجية للصادرات اللبنانية، وفقدان أكبر سوق عربي، فضلًا عن خسائر تطال الصناعة اللبنانية، وتؤدّي إلى إنحسار دخول النقد الأجنبي إلى لبنان. وهناك ارتدادات سلبيّة غير مباشرة ستظهر تباعًا في المرحلة المقبلة، تطال بشكلٍ رئيسي الإستثمارات الخليجية في مؤتمر سيدر، وفي أيّ برنامج قد يصل إليه لبنان مع صندوق النقد الدولي، فضلًا عن تحويلات المغتربين التي لن تكون بمنأى عن التداعيات، على رغم تأكيد المملكة العربية حرصها على مصالح اللبنانيين المقيمين على أراضيها. هذه التحويلات تبلغ 1.6 مليار دولار، تأتي بالدرجة الأولى من المملكة العربية السعودية، ومن المتوقع أن تخضع التحاويل من الآن وصاعدًا إلى عملية تدقيق، وإمكانية تتبّع للأشخاص، وما إذا كانت تربطهم صلات بمؤسسات مالية داخل لبنان، فرضت المملكة عليها عقوبات.

لكن ما هو أبعد من الأرقام الإقتصادية وأكثر تأثيرًا، يطال الشقّ السياسي من الأزمة، ويشكّل منعطفًا خطيرًا في تاريخ العلاقات بين لبنان من جهة ودول مجلس التعاون الخليجي من جهة ثانية، ويضع البلد في حالة غير مسبوقة من العزلة العربية والدولية، وهو ما يناقض جوهر وجوده ودوره ودستوره الذي ينصّ في الفقرة “ب” من مقدمته على أنّ “لبنان عربي الهوية والإنتماء وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها..”، كما يناقض انفتاحه التاريخي على الشرق والغرب والتزامه بالانتماء العربي.
“هي أول وأكبر نكسة دبلوماسية وسياسية يشهدها لبنان منذ تاريخ الإستقلال عام 1943” يقول السفير السابق يوسف صدقة في اتصال مع “لبنان 24” لافتًا إلى أنّه لم يحدث سابقًا أن تمّ طرد سفراء ودبلوماسيين للبنان. كما أنّها النكسة الأولى بهذا المستوى في العلاقات اللبنانية الخليجية، التي لطالما كانت على ما يرام، خصوصًا مع المملكة العربية السعودية، منذ أيام الملك عبد العزيز آل سعود، بحيث كان للبنان مكانة كبيرة لدى المملكة.
يضيف صدقة “على الصعيد السياسي، لا يمكن فصل المقاطعة الخليجية عن مجريات الحرب في اليمن، خصوصًا أنّ السعودية تدرك أنّ الصواريخ المسيّرة التي تهدد أمنها القومي، ليست من صنع الشعب اليمني بل تعود لحزب الله اللبناني الذي يدرّب المقاتلين الحوثيين، وهذا ما أعلنته مرارًا. بالتالي لا يمكن للمملكة أن تتساهل بهذه المسألة التي تهدّد أمنها ونفطها وسلامة أراضيها، لا سيّما بعدما تجاوز الحوثيون حدودهم، ووصلوا إلى محافظة مأرب الإستراتيجية”.
أضاف صدقة “لو حصلت استقالة وزير الإعلام جورج قرداحي في بداية الأزمة لكانت أثمرت لناحية تخفيف حدّة الإحتقان، وكان من شأنها إفساح المجال أمام وساطة دولية أميركية أو فرنسية، لكن اليوم أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا، كما أنّ الإستقالة لم تعد بيد القرداحي، والمسألة برمّتها باتت ضمن الصراع الإيراني – السعودي، لاسيّما أنّ الحوار بين البلدين لم يثمر بعد، وأزمة اليمن لا زالت عالقة، ولا يمكن أن توافق السعودية على تسوية لا تحفظ لها أمنها”.
يعيش الداخل اللبناني تداعيات الصراع الإقليمي والدولي، ونشهد اصطفافًا كبيرًا على المستويين السياسي والشعبي، وليست منصّات التواصل الإجتماعي سوى انعكاس لذلك. لكن” رغم الهيمنة الإيرانية على القرار اللبناني عبر حزب الله، لا يمكن للولايات المتحدة إطلاق يد إيران في لبنان، أو تركيا أو إسرائيل، وهي الدول الإقليمية في المنطقة. لاحقًا قد تفسح الإدارة الأميركية المجال اللبناني للنفوذ الروسي، ولكن لم يحن زمنه بعد”، وفق مقاربة السفير صدقة.
ويضيف”مهما كابر فريق لبناني وذهب بالعداء للدول العربية الشقيقة إلى حدود تتناقض مع تاريخ لبنان وجوهر كيانه، ومهما حاول هذا الفريق سلخ لبنان عن محيطه العربي، هناك حقائق لا تحجبها عاصفة الغبار الآنية، ولو طال أمدها، فلبنان لن يكون ضمن الفلك الإيراني، هذا مناقض للتاريخ والجغرافيا ولإرادة جزء لا يستهان به من شعبه”.
بأيّ حال، الأزمة الدبلوماسية غير المسبوقة هذه، من شأنها أن تثبت مدى أهمية معادلة النأي بالنفس عن الخلافات الدولية، التي ابتكرها قبل سنوات الرئيس نجيب ميقاتي، لإبعاد لبنان عن صراعات المحاور الإقليمية، كي لا يدفع هذا البلد الصغير الأثمان الباهظة لتلك الصراعات، أو يتحوّل إلى ساحة لتصفية النزاعات بالوكالة. هذه المعادلة التي تطوّرت إلى وثيقة “إعلان بعبدا”، كان لها الفضل في المرحلة السابقة في حماية الاستقرار الداخلي والحفاظ على علاقات لبنان الخارجية، سواءً مع العالم العربي أو مع سائر مكونات المنظومة الدوليّة، بحيث كان لبنان يواصل حضوره العربي والدولي ويسعى للحفاظ على موقعه الطبيعي بين العرب. وما نشهده اليوم ليس سوى ترجمة للإنقلاب على هذه المعادلة واستبدالها بـ”الزجّ بالنفس” في الصراعات،وتدفيع اللبنانيين أثمانها الباهضة من عيشهم وحاضرهم ومستقبلهم.