تتأجّج الأزمة الاقتصادية التي يرزح تحتها لبنان منذ بداية العام 2020 يوماً بعد يوم حتى اصبح الانهيار السّمة الأساسية للواقع اللبناني والذي أثر بشكل مباشر على البُنى المؤسساتية للدولة وبات التفكّك جزءا من المرحلة مع تضاعف معدّل التفلّت الأمني المُجتمعي وتزايد وتيرة الاشتباكات التي تتخذ منحى طائفياً ومذهبيا.
لكنّ هذا الواقع ليس نهاية المطاف، إذ إن هذا التفلّت بات يطال جوانب ثقافية واعلامية تظهّرت من خلال التصريحات التي انطلقت منذ مدة “من دون جمرك” لتثير موجة من الجنون الجماعي عبر الاعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي الذي غالباً ما يعكس الرأي العام اللبناني. كل ذلك يحصل وما زلنا في وسط الأزمة ولم تقترب البلاد خطوة واحدة من عتبة الحلّ لبلوغ النهاية.
أمس كان موعد مباراة لبنان وإيران في تصفيات كأس العالم، حيث فوجىء البعض باستفتاءات جدية تطرح تصويتاً حول المنتخب الذي ينوي اللبنانيون تشجيعه، وهذا الأمر ليس بجديد، إذ سبق وانبرت بعض الشخصيات السياسية والاعلامية لتشجيع المنتخب السعودي في مباراته مع لبنان، رغم التبريرات التي تلت تلك المواقف آنذاك. وبعيداً عن المودّة أو الولاء الذي يكنّه معظم اللبنانيين للدول العربية وعن الموقف الوطني المحسوم لدى فئة كبيرة منهم في مختلف القضايا، الا أن ما بدا لافتاً هو أن يأخذ هكذا نقاشاً حيّزاً واسعاً من المساحة الاعلامية ويفتح معه معركة شعبية “افتراضية” مجهولة الغايات.
وعلى عكس التوقّعات “المرجوّة” فقد أظهرت مواقع التواصل الاجتماعي أن الغالبية العظمى من اللبنانيين عموماً بمن فيهم بيئة “حزب الله” المُستهدفة بشكل مباشر بذلك التصويت اختارت حتماً تشجيع المنتخب اللبناني، فلماذا إذاً تمّت الاضاءة على بعض المظاهر “الشاذّة” عن القاعدة الوطنية والتي لا تمثّل الا جزءا ضئيلاً من تلك البيئة الاجتماعية؟ أليس هذا تصويباً سياسياً؟
أن تسعى احدى المحطات الاعلامية الى تسريب تسجيل صوتي في تقريرها لمواطن لا صفة له يدعو الى تشجيع ايران، ألا يُدرج ذلك أيضاً ضمن خانة “التعارك” السياسي؟ وإلا فما هي القيمة الصحفية لمثل هذا التسجيل؟ وإن كان هذا التقرير التلفزيوني نابعاً من قرار صحفي بحت فهذا بحدّ ذاته انهيارا اعلامياً، أما إذا كان عبارة عن تصويب سياسي فتلك مصيبة أكبر!
من جهة أخرى، نرى أن البرامج الكوميدية باتت مادّة دسمة للاستهداف السياسي أيضاً، حيث جرى العمل منذ مدّة على تنميطها لتتناسب مع أهداف فريق أو آخر، الأمر الذي طرح تساؤلات عدّة حول مستوى الحضيض الذي وصلنا اليه، إذ باتت هذه البرامج جزءا من عملية الإسقاط السياسي على شرائح واسعة من المجتمع، والأمثلة كثيرة، ما جعل جميع العاملين في الإعلام عُرضة لتقديم خدمات سياسية سواء عن سابق إصرار أو من دون قصد!
عملياً، هذا هو المعنى الحرفي للانهيار في ظلّ انعدام الدولة المركزية وتفلّت القدرة على تحديد الضوابط، وفي ظل واقع اجتماعي متشظّي يعجز عن الفصل بين الخلاف السياسي والخلاف الطائفي أو المذهبي، بالإضافة الى الأزمة المالية التي تبدو اليوم أقوى من المبادىء الاخلاقية والانسانية والمهنية. ولعلّ الإنقاذ الفعلي لا يبدأ من الواقع الاقتصادي، بل من العقليات اللبنانية “كلن يعني كلّن” وما يجب إسقاطه حقاً هو ليس النظام، بل هي التركيبة الاجتماعية الغريبة المبنية على الغرائز الطائفية والتي وجب الاصلاح فيها أولاً ومن ثم.. فليسقط النظام!