كتب المحرر السياسي: مجدّدًا، يجد اللبنانيون أنفسهم في قلب “المأزق”. الدولار عاد إلى تحليقه “الجنوني”، الذي كادت الحكومة تضع حدًا له، بعد انطلاقتها “الواعدة”، وقبيل تعطيلها “المدمّر”. وبالموازاة، تواصل أسعار المواد الأساسية، ولا سيما الاستهلاكية منها، ارتفاعها، بعدما باتت سياسة “رفع الدعم” أمرًا واقعًا لا مهرب منه، تحت أيّ ذريعة.
في اليومين الماضيين، كان على اللبنانيين أن يختبروا “امتحانًا ثقيلاً” آخر. بعد الوقود، بات رفع الدعم عن الدواء بمثابة “تحصيل حاصل”. ومع أنّ هذا القرار “غير الشعبوي” كان متوقَّعًا، وقد تمّ التمهيد له على مدى أشهر طويلة، جاءت ردود الفعل “الشعبوية” متوقّعة أيضًا، وخرج من يحمّل وزير الصحة المسؤوليّة “المُطلَقة” عنه، وكأنّ غيره كان قادرًا على منعه.لا شكّ أنّ الشكوى من رفع الدعم محقّة، من جانب المواطنين المظلومين الذين يدفعون الثمن مضاعَفًا، وما عادوا يمتلكون القدرة على الصمود أكثر. وُعِدوا ببطاقة تمويلية، فإذا بالدعم يُرفَع قبل أن يُكشَف خيرها من شرّها، وإذا بها تفرَغ من مضمونها، قبل أن تبصر النور. لكنّ الخشية تبقى من استثمار “وجع” الناس انتخابيًا، وقد بدأ يُرصَد “على عينك يا تاجر”!
لا حول ولا قوة
لعلّ المفارقة الأبرز في مشهد اليومين الماضيين أنّ من استهجنوا زيادة معاناة الناس هم في الواقع من “ضربوا” الحكومة في مهدها، فربطوها بأمور سياسيّة وقضائيّة أكبر منها، وعطّلوا إنتاجيّتها، وشلّوها عن العمل، وحوّلوها “أسيرة” تجاذبات لم تعد تعني المواطنين بشيء، وهم يختبرون نار “جهنّم” من دون أيّ “حصانة” تقيهم حرارتها العالية.صحيح أنّ ما حصل كان مُنتظَرًا، بحكومة منتجة أم مشلولة، علمًا أنّ هناك من استبق ولادة الحكومة ليؤكد أنّ قرارات “صعبة وثقيلة”، وقبل ذلك “غير شعبية”، بانتظارها، أولها “قنبلة” رفع الدعم، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ الحكومة تبدو وسط كلّ هذه “المعمعة”، كمن لا حول لها ولا قوة، وهي “العاجزة” عن مجرد الاجتماع لتنفيس “الاحتقان” بالحدّ الأدنى، وتبديد “هواجس” الناس، و”طمأنتهم” على واقعهم ومصيرهم.يذكّر البعض كيف أنّ تشكيل الحكومة انعكس “ارتياحًا” في الشارع، فانخفض سعر الدولار، وحقّق “انتعاشًا” لم يلمسه اللبنانيون لأشهر طويلة خلت، لكنّه لم يصمد لأكثر من شهر واحد، بعدما نجحت السياسة في “التسلّل” إليه، فانقلبت الأمور دراماتيكيًا رأسًا على عقب، ما يعني أنّ الحكومة، لو حافظت على الحدّ الأدنى من التماسك والتضامن، لنجحت على الأقلّ في “احتواء” المشكل بأقلّ الأضرار الممكنة، وهو ما لم يحصل.ما المطلوب؟لم تقفل الأمور بعد. يمكن القول إنّ ما حصل في اليومين الماضيين دقّ “ناقوس الخطر”. لكنّ “خريطة الإنقاذ” التي طرحتها الحكومة عند تشكيلها، وخطّتها في بيانها الوزاري، وباشرت نقاشها في المفاوضات مع صندوق النقد، لا تزال صالحة للتطبيق، رغم كلّ الصعوبات والمعوّقات التي تبدو أكثر من أن تُعَدّ أو تُحصى. بهذا المعنى، يرى كثيرون أنّ المطلوب اليوم وقبل الغد، “تحرير” الحكومة بكلّ ما للكلمة من معنى، وإعادة إطلاق عجلاتها، بعيدًا عن ربطها بنزاعات لا شأن لها بها، لأنّها إذا لم تنجح في تحقيق ما تصبو إليه من “إنقاذ” بالسرعة المطلوبة، فهي قادرة بالحدّ الأدنى منع “الارتطام الكامل” الذي تبدو الأمور متّجهة صوبه، خصوصًا على وقع الأزمات المتفاقمة التي تحيط بها من كلّ حدب وصوب.وبالموازاة، قد يكون مطلوبًا “مساندة” الحكومة في وضع حدّ للقطيعة مع الخليج، لأنّ دعم المجتمع الدولي لا غنى عنه في مسيرة الإنقاذ التي تنشدها، ما يتطلب الابتعاد عن الخطابات “الخشبية” التي تضرّ ولا تنفع في هذه الحالة، خصوصًا أنّ الناس لا تريد سماع المزيد من الكلام، بل تسعى لرؤية “ترجمته” على أرض الواقع، وهو ما يتطلب “تضامن” الجميع، بعد تغليب المصلحة الوطنية العُليا على كلّ ما عداها.بالأمس، أعلن رئيس الحكومة عن “مساعدة اجتماعية” لكل الموظفين في القطاع العام. هي خطوة مباركة، رغم كلّ الصعوبات، لعلّها تنجح في التخفيف من حجم الألم. لكنّها غير كافية، ومنقوصة، طالما أنّها لا تشمل “شركاءهم” في الوطن. فهل يُسمَح للحكومة بالعمل للحدّ من “المأسأة”، أم أنّ الحسابات “الانتخابية” تطغى عشية موسم انتخابات، لا يزال البعض ينظر إليه من بوابة “صوت بالزائد أو بالناقص”؟!