كل عام، ومع اقتراب حلول عيد الميلاد المجيد، يسارع عدد كبير من المسلمين لمشاركة المسيحيين بهجة اعيادهم والغوص في مظاهر الاحتفالات المتلألئة التي تملأ الشوارع. هذه المناسبة التي ينتظرها معظم اللبنانيين للتنفيس عن واقعهم المزري الذي يعيشونه كانت وما زالت رغم بُعدها الديني، عادة اجتماعية يتمسّك بها هؤلاء من مختلف الطوائف.منذ مدّة، ليست ببعيدة، ومع اتساع رقعة الفضاء الالكتروني بدأت تتعالى أصوات النشاز فوق ترنيمات الأعياد لتخرق التماسك الاجتماعي الذي صمد طويلاً مجاهرة برفض المشاركة بمظاهر العيد، بل ذاهبة بعيدا الى حدّ تحريم المعايدات وذلك انطلاقاً من صلب الدين الاسلامي. هذه الظاهرة المستجدّة لاقت قبولاً لا بأس به في المجتمعات الاسلامية الضيقة غير انها جوبهت بامتعاض شديد من قِبل فئة من المسلمين المؤمنين بالانفتاح والمتمسكين بصيغة العيش المشترك والقيم الانسانية في المجتمع الواحد.الطريف في الأمر أن الخلاف كل عام يقع ضمن الطائفة الواحدة، بين المسلمين أنفسهم، فمنهم من يعارض المعايدة ومنهم من يؤيد ومنهم من يقف على الحياد، علماً أن العديد من المراجع الدينية الاسلامية أفتت بجواز تهنئة المسيحيين في عيدهم لأن ذلك من شأنه أن يشدّ عصب اللحمة الوطنية ويحيي مشاعر الأخوة بين أبناء الوطن متعدد الطوائف والمذاهب، غير أن هذا النفَس الغريب الذي طغى في الآونة الاخيرة، لا سيما افتراضياً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يبدو مرعباً في ظلّ التطور المجتمعي الحاصل بالتزامن مع التطور التكنولوجي وانفتاح شعوب العالم على بعضها.هذا التباين في وجهات النظر لم يقتصر على تحليل أو تحريم معايدة المسيحيين في أعيادهم، بل انسحب أيضاً الى المبالغة في التطرّف الإيجابي والسلبي. قد ينظر البعض الى كلمة التطرّف الإيجابي بعين العجب، فكيف تجتمع الكلمتان معاً وكيف للتطرف أصلاً أن يكون إيجابياً؟مما لا شك فيه أن بعض اصحاب العقول الضيقة الذين يحرّمون معايدة المسيحيين في أعيادهم ربطاً بأحكام شرعية غير مثبتة، يُبعدون الناس، عن قصد او غير قصد، عن جوهر الدين الاسلامي المبني على تقبّل الاخر واحترام قناعاته على قاعدة “لكم دينكم ولي ديني”. ولعلّ التطرف السلبي لديهم يكمن في بثّ الكراهية بين الأديان ويعمل على التفرقة في ما بينها فينشغلون بدين غيرهم عن تصويب دينهم وتقويم أتباعه لما فيه خير هذه الأمة، وتجدهم بلا خجل ينطقون بعبارات التكفير بغير دليل متغاضين عن قول رسول الله (صلعم) “من كفّر مسلماً فقد كفر”، ومتجاهلين بأن الّلين يعكس ليناً والقسوة تعكس تعنّتاً ونفوراً ففي قوله تعالى: ولو كنت فظاً غليظ القلب لأنفضّوا من حولك”. فما الغاية إذاً من هذه المواجهات الخاسرة؟ حيث أن تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد لا تعني تركك لدين الإسلام ودخولك المسيحية! ولماذا يجهدون في هذه الأيام تحديدا لمناقشة قضايا عقائدية تثبت طبيعة الاختلاف في حين يغلبهم الصمت طيلة العام؟من جهة اخرى فإن المغالاة بمشاركة المسيحيين أعيادهم في محاولة لإثبات الانفتاح ورفض التزمّت من خلال الإفراط في تصوير مظاهر الاعياد في بيوتنا او قرب شجرة الميلاد ونشرها في العالم الافتراضي، هو تطرّف من نوع آخر رغم إيجابيته، إذ انه ليس مطلوب من المسلمين كل هذا الجهد لإظهار “براءة الذمة”، ولا مسموح أصلاً أن نخضع كل عام لفحص دم في “العيش المشترك” وتقبّل الآخر. بالإضافة الى ذلك، فإن المشاركة مثلاً في مناسبات الشيعة ليست واجبة، ولا ارتياد الكنائس او الجوامع واجب، ولا امتناع المسيحيين عن الطعام في شهر رمضان واجب، ولا ممارسة أياً من طقوس الطوائف الاخرى واجب على الاطلاق، بل هي ارادة العيش معاً والمشاركة المتوازنة ما بين الطوائف على كافة المستويات واحترام الآخر ونبذ الكره والعداء له مهما كان مختلفاً وذلك في إطار الدولة الوطنية الجامعة!هذا التشوّه الخلقي الذي يعاني منه المجتمع اللبناني اليوم ما هو الا واحدة من أشرس مخلّفات حرب الـ75، والتي لم يلتئم جرحها أو ينتهي اثرها في النفوس، حيث لم يسعَ أحد آنذاك لفرض مناهج تربوية حديثة تطفىء فتيل الفتنة وتنهي فكرة الطائفية المقيتة لرأب الصدع الحاصل نتيجة للفرز الديني والمناطقي، إذ ما زلنا حتى اليوم نقول “في المناطق الشيعية، الإحباط السنّي، وحقوق الطائفة وصلاحيات رئيس الجمهورية الماروني” الخ…هذا “القرف” المتداول على مواقع التواصل كل عام بتوقيت “الميلاد” ليس الا “تحصيل حاصل” بفعل التحالفات والخصومات، وحين نعرج الى السياسة لتحميلها جزءاً كبيراً من “الانفعالات المفتعلة” لا بدّ وأن نبحث أيضاً عن “القطفة” التي تدخل من حدائقها المزروعة بالورد رموز السلطة فتُحكم قبضتها أكثر فأكثر على قواعدها الشعبية بكبسة زرّ.. وهل اقوى من خطابات التجييش الطائفي سلاحاً للكسب الشعبي غير المشروع؟نحن ندفع ثمنا لعقود من بثّ سموم الاحقاد بين أبناء الوطن الواحد، في الاعلام، والندوات وعلى المنابر، صوت واحد كلّما دعت الحاجة لشد العصب “الطائفي” بالإضافة الى رواسب دينية متشددة أو تشريعات عقيمة موروثة ومتجذّرة في العقول. فلا عجب أن تتحوّل “السوشيل ميديا” الى ساحة اشتباك تارة وتارة اخرى الى ثورة على المفاهيم الدينية التقليدية وتُسمّى لدى بعض “جيوش الفضاء الالكتروني” “تبييض وترقيع” بدافع “الودّ” السياسي او الاجتماعي.مُجبرٌ أخاك لا بطل، هكذا يعايد اللبنانيون بعضهم بعضاً في الاعياد، وكأن ما تظهره الوجوه تضمر ما دونه القلوب، وإذا كان التكرار يعلّم “الشطّار” فكفى “تتشاطروا”، لأن المواظبة على استهلاك المستهلك يُفقده قيمته المادية والمعنوية، والاستمرار في تحدّي الروابط الاجتماعية والثقافات الدينية على اختلافها في دولة متعددة الطوائف ما هو الا ضرب حماقة لن يحصد زرعه الا شوكاً!يبدو أن هذا المجتمع بحاجة الى خلق مساحة مشتركة انسانية واخلاقية في ما بينه تنعكس على فكر الافراد وأدائهم فيتصرفون “بأريحية” من دون الاكتراث بتفاصيل قد تهدم ولا تبني! هذا المجتمع برمّته بحاجة الى تكريس ثقافة الانفتاح على الاخر من دون الانخراط معه او الذوبان فيه حيث “لا ضرر ولا ضرار”، لكن الإمساك بالشعارات من أطرافها من دون تطبيقها هو صوت بلا صدى! نحن اخوة في الله، اخوة في الوطن، اخوة في الحياة، طيب طيب ممتاز! “اذا كلكن اخوة، شو في لزوم تضلّ تقولا”؟! أختم بجملة من مسرحية للفنان زياد الرحباني وكل عام ونحن جميعاً بخير!