عاتبني أصدقاء كثر إتصلوا بي من لبنان على مقالتي التفاؤلية قياسًا إلى الوضع المزري الذي يعيشه اللبنانيون، وقال لي أحدهم: “إنتو يللي عايشين برّا شو عبالكن. بتقبضوا بالدولار. ما عندكن مشكلة كهربا. الدولة يللي عايشين فيها ما بتسرقكن. بتعّلمو ولادكن ببلاش. والطبابة مأّمنة ومضمونة. صحيح أنو يللي إيدو بالمي مش متل يللي إيدو بالنار. قاعدين برّا وبتنظّرو علينا شي طالع شي نازل. يللي عم ياكل العصي مش متل يلّلي بيعدّا”.
بالطبع تفهمّت هذا الغضب، وهو تعبير عن “فشّة خلق” محقّة ومبرّرة. فما قاله صديقي صحيح مئة في المئة، مع فارق أساسي ومهمّ، وهو أن الذين يعيشون “برّا” معنيون بما يجري في وطنهم الأمّ أكثر من كثير من الذين يعيشون “جوّا” بعض الأحيان. الذين يعيشون “برّا” قسرًا وليس بطيب خاطرهم قلبهم على “جوّا”، لأنهم يعيشون همّه بكل تفاصيله. ليس صحيحًا أن المغتربين، وأنا واحد منهم، يعيشون وكأن مشاكل لبنان لا تعنيهم، أو أن وجع الناس لا يدمي قلوبهم. فلكل منّا أهل وأحباب وأصدقاء يعيشون في “الوطن المعذّب”. فكل ما يصيبهم يصيبنا في الصميم، وإن كان يُقال إن الجمرة لا تحرق سوى محّلها.
همّكم همّنا. وجعكم وجعنا. قلقكم على المصير هو كقلقنا تمامًا. صحيح أن لا مشكلة كهرباء حيث نحن موجودون، لأننا نعيش في دول لم يسرق المسؤولون فيها أموال الناس. ومن يسرق هنا يدخل إلى السجن، أيًّا يكن السارق، حتى ولو كان قريبًا لهذا المسؤول أو ذاك الزعيم. فالسرقة بمعناها الحصري هي سرقة وليست أي شيء آخر. ومن يسرق المال العام مصيره معروف، وليس كما هي الحال عندنا في لبنان. فالسارق في لبنان يصبح زعيمًا ولا أحد يحاسبه، او بالأحرى لا يجروء أحد على أن يقول له “محلا الكحل بعينك”.
صحيح أنه حيث نعيش الطبابة مضمونة، وأن لا أحد يموت على أبواب المستشفيات، وأن الدواء مؤّمن وبأسعار تتناسب مع القدرات الشرائية لمختلف شرائح المجتمع، وذلك لأن لا أحد هنا يسمح لنفسه بأن يحتكر الدواء، أو يتاجر بصحّة الناس.
صحيح يا صديقي أن التعليم هنا في كندا مجاني للجميع، ولكن ثمة من هم ميسورون يرسلون أولادهم إلى مدارس خاصة، وهي مكلفة جدًّا. ولكن الصحيح أيضًا أن الجميع ومن دون إستثناء يدفعون ضرائبهم، وهي عالية، حتى آخر دولار. فالدولة حريصة على مالها العام، وهي تلاحق من يتهرّب من دفع ضرائبه وتحصّل حقّها بالقانون. ولو لم تفعل ذلك لما كانت قادرة على تأمين الطبابة والتعليم مجانًا، وضمان الشيخوخة.
ما كتبته بالأمس يا اصدقائي لم يكن شعرًا، كما سبق أن قلت، ولكن هو دراسة للواقع، الذي لا يمكن أن يستمرّ على حاله كما هو. وصفت ما يمرّ به لبنان بأنه “زمن الرجاء”، زمن التواصل بين هذا “البرّا” وذاك “الجوّا”. فمن يعيش في الداخل له أجر عظيم، لأنه صامد في أرضه. هكذا كان التاريخ. هو بقي في أرضه فيما رحل عنها جميع الأغراب والمحتلّين، وما أكثرهم. أمّا الذي يعيش في الخارج، وهو جزء لا يتجزأ من الداخل، فهو السند والعضد. بهما تكتمل مشهدية الرجاء، ومعهما سينتصر لبنان على محنه. الأول يقاوم ويصمد كما فعل الأباء والأجداد من قبل. والثاني يجاهد ويعاند ويساند.