عندما جاء الرئيس نجيب ميقاتي الى الحكم كان يدرك تماما أنه أمام مهمة صعبة أو ربما مستحيلة، وأن البلاد المنهارة إقتصاديا وماليا تتخبط في أزمات وصراعات سياسية من شأنها في ظل الواقع الاجتماعي المأسوي أن تؤدي الى فوضى أمنية غير مسبوقة كانت مؤشراتها تظهر وتتنقل بين المناطق اللبنانية.
كان ميقاتي أمام حل من إثنين، فإما أن ينأى بنفسه عن كل ذلك ويبقى متفرجا على الفراغ القاتل والانهيار الحتمي وصولا الى الارتطام الكبير وتداعياته الكارثية، أو أن يتعاطى بمسؤولية وطنية ويتقدم ويحمل كرة النار في محاولة أخيرة لوقف الانهيار والاستفادة من الدعم الدولي المتنامي للبنان.
لم يعد ميقاتي اللبنانيين بإخراجهم من الأزمات بسحر ساحر ، وبإعادة الوضع الى ما كان عليه قبل ثورة 17 تشرين الأول 2019، بل كان واضحا منذ البداية بأن مهمته الوطنية تحتاج الى تضافر جهود وتعاون الجميع، خصوصا أن مهمة الانقاذ ليست فردية بل هي جماعية تقع على عاتق كل الأطراف سواء التي سمته لتشكيل الحكومة أو لم تسمه، أو تلك التي أعطته الثقة أم لم تعطه.
هذه المهمة تعطلت عند أول مفرق سياسي أصطدمت فيه المكاسب والمصالح والاجندات والانتخابات والاستهدافات وتصفية الحسابات، ما دفع رئيس الحكومة الذي كان يعلم ما ينتظره للانتقال فورا الى الخطة “ب” لتسيير شؤون المواطنين ودراسة الملفات المعيشية والاجتماعية والصحية الملحة، والتمهيد للتفاوض مع صندوق النقد الدولي وإستعادة بعضا من ثقة المجتمع الدولي، من خارج مجلس الوزراء عبر إجتماعات عقدت على مدار ساعات العمل، في سلوك غير مسبوق، أكد بما لا يقبل الشك بأن نجيب ميقاتي لم يأت للدخول في معارك سياسية، ولا في سياسة محاور، ولا للتربع على كرسي الرئاسة الثالثة، بل جاء لتنفيذ مهمة وطنية إنقاذية بذل وما زال يبذل جهودا مضاعفة لتهيئة ظروفها وإعداد ملفاتها بانتظار إستئناف إجتماعات مجلس الوزراء.
بالأمس، ولمناسبة نهاية العام خاطب الرئيس ميقاتي اللبنانيين بصراحة ومن دون قفازات، فلم يرفع سقوفا، ولم يتبرأ من مسؤوليات، ولم يوزع إتهامات، ولم يقدم أعذارا ومبررات، بل رسم خارطة طريق واضحة لاعادة إنتظام الحياة السياسية في لبنان.
قدم ميقاتي طرحا متكاملا وسطيا ومعتدلا حاكى فيه الخصوصية اللبنانية بشكل صحيح وسليم والتي لا يمكن لأي كان مهما علا شأنه القفز فوقها، والمتمثلة بإحترام كل المكونات اللبنانية بتنوعها وإنتمائها وتوجهاتها السياسية والطائفية والمذهبية والمناطقية.
وبالرغم من تأكيد رئيس الحكومة على الثوابت الوطنية، وعلى إلتزام لبنان بعروبته، وبالنأي بالنفس وبأفضل العلاقات مع الدول العربية والخليجية منها على وجه الخصوص والأجنبية، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية أو الاساءة اليها بأي شكل من الاشكال، وعدم الانخراط في ما لا شأن لنا به ولا سيما في اليمن، فضلا عن الالتزام بالضوابط الدستورية وبالشرعية الدولية، إلا أن البعض سارع الى إقتطاع جزء من هذا الطرح الوطني المتكامل للتصويب على ميقاتي وإستهداف هذا النهج المعتدل، وذلك بهدف التحريض وإستدراج عروض ما من شأنه أن يؤسس الى إنقسامات عمودية قد تؤدي الى توترات وفوضى أمنية قد يعلم اللبنانيون كيف تبدأ لكن أحدا لا يعرف كيف تنتهي.
يدرك الرئيس ميقاتي حساسية الظرف ودقته، وأن لبنان بات على “كف عفريت” يوسوس لضعاف النفوس لأخذه الى مكان لا يريده أحد، لذلك فقد حرص في خطابه أمس على حث الجميع من أجل الابتعاد عن التجاذبات ولم الشمل والانتقال من الذاتية السياسية والحزبية الضيقة الى رحاب العمل الوطني المسؤول الذي يأخذ المصالح اللبنانية العليا بعين الاعتبار، والى تطبيق الدستور الذي يقدم الحلول الناجعة لكل الأزمات لا سيما أزمة المحقق العدلي طارق البيطار.
يبدو ميقاتي متيقنا من أن الجهود المضنية التي يبذلها ستثمر عن عودة الحكومة الى الاجتماع، وهو حاول أمس رغم سوداوية المشهد الى فتح ثغرة أمل مع إنطلاق العام الجديد، لذلك فقد لاقى رئيس الجمهورية في دعوته الى الحوار، لكنه أضاف الى بنوده، بندا يتعلق بتمتين علاقات لبنان العربية ولا سيما مع دول الخليج، وسحب في الوقت نفسه من بنوده بندا يتعلق بخطة التعافي الاقتصادي، كونها من صلاحيات الحكومة حصرا ولا دخل لطاولة الحوار بها، وفي ذلك تأكيد على أن في “السراي الكبير” صمام أمان لاتفاق الطائف والتوازن الوطني وفصل السلطات وإحترام الصلاحيات.