اعتاد اللبنانيون لسنوات طويلة استخدام مصطلح “الطابور” للدلالة على مجموعة من الناس يهدفون الى اثارة الفتن وخلق المشاكل والنزاعات فكانت عبارة “الطابور الخامس” نجمة في عالم الاعلام وفي الدردشات والاحاديث المتنقلة التي تناولت الوضعين الأمني والسياسي.
لكن العام 2021 منح لمصطلح “الطابور” معنى آخر وبعدا مختلفا فتحوّل الى “تراند” في العالمين الافتراضي والواقعي، لا بل تحوّل الى عبارة تصف المشهد اللبناني بفكاهة وحسرة في الآن معا.
ابحث عن الاتراك
في محاولة لفهم السياق العام لاستخدام عبارة “الطابور”، تجدر الاشارة الى ان ” الطابور” يمكن النظر اليه كمصطلح طارئ على اللّغة العربيّة، تبنّته المعاجم بعد طفرة استخدامه على ألسنة النّاس.
فأصل الكلمة تركي وتُكتَب في الأساس “تابور” وفقا لمعجمي ” تاج العروس” و”الرّائد”،مع العلم ان خلافا برز حول اعتماد “الطاء” او “التاء” لكتابتها.
أما في المعنى، فيُطلَق المصطلح على مجموعة من العسكر من ثمانمئة إلى ألف عنصر، لكنّ الكتّاب استعاروه من العسكر ليستخدموه في معرض وصف أي تجمّع فيه زحمة والتقاء لعدد كبير من للناس.
ومعنى “الطابور” لا يرتبط اساسا بالذّلّ -“طوابير الذّلّ”، انما الاستخدام اليومي في سياقنا اللبنانيّ لوصف مشهد أشخاص متزاحمين على لقمة عيش أو وَقود منحه هذا الطّابع السّلبي.
شهيد و”طوابير” متنقلة
وعلى ما يبدو لا يشكل “الطابور” حالة طارئة على اللغة وحسب انما على حياة المواطن الذي أعاده العام 2021 الى مشاهد اعتقدنا لوهلة انها ستبقى صورا تؤرخ للحرب و لهول المجاعات والأزمات الكبرى التي عاشها اللبناني في فترات متفاوتة.
فهذا العام تميّز بصفوف طويلة انطلقت منذ بدايته ولم تعرف طريقها نحو الاختفاء حتى الساعة، وقد تكون صفوف البنزين والمشاهد المبكية أمام محطات تعبئة الوقود واحدة من أشهر وأصعب الطوابير التي اصطف فيها اللبناني، فعلى مدار اكثر من 3 أشهر وفي الفترة التي سبقت رفع الدعم عن البنزين ولأسباب اقتصادية وسياسية تحوّل البنزين الى مادة أشعلت لهيب غضب المواطن لكنها لم تفجره.
ونتج عن هذه الطوابير مئات المشاكل المتنقلة وعشرات الجرحى بالاضافة الى حرق بعض المحطات وتكسيرها، كما انه ومع الأسف الشديد لم تشأ “طوابير البنزين” ان تنتهي قبل ان يسقط الشاب غيث المصري ابن بلدة ببنين العكارية شهيدا على مذبح وطن غرق في وحول البنزبن و”الكارتلات” و” المافيات” والسياسات الاقتصادية غير المجدية.
ومن مشاهد الذل أيضا، لا بد من العودة الى ازمة الرغيف و”طوابير الأفران” التي مست مباشرة بكرامة المواطن، فعلى صدى اضرابات الأفران والحديث عن انقطاع الطحين والمازوت أو رفع سعر ربطة الخبز، تهافت اللبنانيون وانتظروا طويلا امام أفران غالبا ما كانت تتنافس لاستقطابهم ومحاولة بيعهم منتجاتها التي تحوّلت في هذه السنة من مادة ساخنة ومميزة الى همّ جديد اضيف الى هموم المواطن الكثيرة.
ولا يمكن ان ننسى “طوابير السوبرماركات” التي تحوّلت الى نمط تسوق معتمد لاسيما في الفترة التي أطلقت فيها وزارة الاقتصاد في حكومة الرئيس حسان دياب ما سمي بـ”السلة الغذائية المدعومة” والتي انتشرت سلعها على رفوف المحال في سوريا والعراق والأردن وبعض دول اوروبا وأفريقيا والبرازيل، كمبادرة” رؤيوية “للحكومة آنذاك أرادت من خلالها ان تؤكد للمغتربين انهم في صلب اهتماماتها وخططها.
وظهرت أيضا خلال هذا العام ” طوابير الأدوية” وفحوصات الـ “PCR”، بالاضافة الى “طوابير المصارف” التي دعا اليها التعميم الأخير لمصرف لبنان، فلبى المواطن الدعوة دون تردد سعيا وراء الدولار والقليل من الاوراق النقدية بالعملة الوطنية التي قد تؤمن له ما يفرحه ويفرح عائلته في زمن الاعياد.
عملية ابتزاز واضحة المعالم
في هذا المجال وعن امكانية تفسير ظاهرة “الطوابير” ورضوخ المواطن لها، قالت المحللة النفسية ايفي كرم شكور لـ “لبنان 24″ أن ” فكرة الوقوف في الصف او الانتظار ليست عملية سلبية انما واحدة من أسمى الطرق لتنظيم حياة الناس.
وفي لبنان، تغيب فكرة الانتظار لسبب جوهري متمثل في غياب الأب او القانون ما يؤدي الى نوع من التفلت في التصرف وعدم الرغبة في تحديد السلوك والأداء”.
وتضيف كرم ” ما شهدناه في العام 2021 هو نوع من اعادة تكوين للمجتمع، فواقعنا اللبناني المهترئ دخل في دوامة من اعادة الصياغة ظهرت معالمها من خلال (الطوابير)، وهذا ما يمكن تشبيهه بالحالة التي شهدتها الدولة الفرنسية في العام 68 اي خلال اعادة هيكلة نفسها وانتاج نظامها الجديد”.
وتشير كرم الى أن ” فكرة الانتظار أو الوقوف في (الطابور) اعتاد عليها المواطن اللبناني مرغما، اذ وجد نفسه امام واقع لا يمكن تفاديه ، بمعنى آخر قامت الدولة بحرمان المواطن من حقه في الحصول على احتياجاته فهيأت الطريق امام رفع الأسعار الجنوني الذي طال مختلف المواد والسلع التي مرّت بها (الطوابير).
وهذا التصرف خلق عند المواطن نوعين من المشاعر والسلوكيات هما الرفض التام أو الرعب المطلق وفي الحالتين وضع الشعب امام عملية ابتزاز واضحة المعالم”.
وفي الختام لا يمكن ان ننسى ابدا “طوابير” جوازات السفر ومحاولة البحث عن وطن بديل لهذه الأرض الذي يلوم فيها الشعب السلطة على تقاعسها وفسادها وتلوم فيها السلطة الشعب على سكوته ورضوخه لتبقى الحلول معلقة بين الملامة وتقاذف التهم بانتظار تدخل الهي أو اتفاق ننوي قد تكثر “الطوابير” قبل التوصل اليه.