أخيرًا، حلّ “يوم الغضب” الموعود، يوم يقول “منظّموه” الذين نزلوا إلى الشوارع منذ الصباح، ليقطعوها في وجه المارّة، إنّ “ما بعده ليس كما قبله”. القرار يُتّخَذ في نهاية اليوم “الطويل”، وفق ما يؤكدون، فقد يُستتبَع بأيام “غضب” بالجملة، غدًا وبعده وبعد بعده، وقد يتمّ اللجوء إلى خيارات “بديلة” أخرى، في ضوء “نتائج” اليوم الأول.
تتباين “أجندات” المنظّمين، وأهدافهم، كما تتنوّع “خلفيّات” غضبهم المحقّ والمشروع، بلا أدنى شكّ. بينهم من يسعى إلى “التغيير الجذري”، عبر اقتلاع “المنظومة” بالكامل، بعدما “جوّعت” الناس وأفضت إلى الواقع “المأساوي”. ولكن بينهم أيضًا، من لا يزال مقتنعًا بالأحزاب التقليدية، ولا يسعى لأكثر من “الضغط” عليها لتحسين الأوضاع، بالتي هي أحسن.
وسط ذلك، كثيرة هي الأسئلة التي تُطرَح وستُطرَح: ماذا بعد الخميس؟ هل يكون ما بعده فعلاً مغايرًا لما قبله، كما يقول بعض المنظّمين، أم أنّ كلّ ما سيتحقّق لن يكون أكثر من يوم “عطلة” للمدارس والجامعات والمصارف، وربما لمن “عجز” عن الوصول إلى مكان عمله؟ وأبعد من هذا وذاك، ألم يبرهن تكتيك “قطع الطرقات” عن “عقمه” بعد كلّ التجارب السابقة؟!
“غضب متأخّر”رغم أنّ التحرّك حقّ، ورغم أنّه يحمل كلّ المقوّمات البديهية والطبيعية ليتضامن معه جميع اللبنانيون، وينزلوا بكلّ قوتهم إلى الشارع ليعبّروا عن “غضبهم” الذي ما عاد يُحتمَل إزاء الارتفاع “الجنوني” لسعر الدولار، وما يترتب عليه من غلاء فاحش على كل المستويات، لم ينجُ “خميس الغضب” من الانتقادات المباشرة والضمنية، للعديد من الاعتبارات والأسباب.
بالنسبة إلى كثيرين، فإنّ التحرّك أتى “متأخّرًا كثيرًا”، بعدما “تقاعس” الاتحاد العمالي العام عن القيام بدوره، في “ذروة” الأزمة الاقتصادية والمالية، قبل أن يختار “الالتحاق” بسائقي السيارات العمومية، حتى أنّ رئيسه الذي سارع منذ الصباح إلى إعلان “نجاح” التحرّك، بدا كمن يسير بين “الألغام”، برفضه “إدانة” المنظومة السياسيّة التي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، مكتفيًا بالقول إنّ صناديق الاقتراع في الانتخابات المقبلة، غير المحسومة، هي “الفيصل”.
وفي السياق عينه، جاء الحديث عن “تسييس” التحرّك ليزيد الطين بلّة، حيث كثر الحديث في الشارع عن جهات سياسية نافذة تقف خلف التحرك اليوم، في توقيته “غير العفوي”، علمًا أنّ النقابات كان يجب أن تنزل إلى الشارع منذ فترة طويلة، لكنّها بقيت “تلوّح”، إلى أن اختارت توقيتًا لم يُعرَف “السرّ” خلفه، وعلى وقع أزمة سياسية متفاقمة، وتوتر وصل إلى أوجه بين بعض الأفرقاء، الأمر الذي أعاد الحديث عن “التسييس” إلى صدارة المشهد.
بعد الخميس..رغم كلّ الانتقادات، يصرّ المنظّمون على “تفاؤلهم”. تناوبوا منذ الصباح على إعلان “نجاح” التحرّك في إطلالات “متفرّقة” عبر وسائل الإعلام. قالوا إنّ كلّ شرائح المجتمع “تضامنت” معهم، بدليل “الشلل” الذي أصاب البلاد، فلا مدارس ولا جامعات ولا أشغال فتحت، ولو أنّ رسالة “غير ودية” برأيها تزامنت مع التحرّك، من خلال صدور جدول أسعار المحروقات، الذي سجّل ارتفاعًا جديدًا يُضاف إلى ذلك الذي طبع بداية الأسبوع.
يصطدم هذا “التفاؤل” بآراء متباينة أخرى. ثمّة من يقول إنّ التحرّك لا يُصنَّف “ناجحًا”، فـ”شلّ” البلد لم يعد يجدي، وقطع الطرقات وحده لا يعني شيئًا، طالما أنّ عشرات الشبّان كافون لقطع كلّ طرقات لبنان، لا العاصمة والضواحي فحسب، والدليل على ذلك أنّ الطرقات قُطِعت، لكنّ الحضور على الأرض كان متواضعًا وخجولاً، في حين أنّ البعض كان يمنّي النفس بـ”انتفاضة شعبية” تشبه تلك التي انطلقت في 17 تشرين الأول 2019.
لذلك، لن يكون الخميس “17 تشرين” آخر، برأي كثير من المتابعين، لأسبابٍ قد تتباين أيضًا، بينها أنّ الناس تعبت وضجرت ويئست، وأنّها لا تعوّل أساسًا على انتخابات أيار المفترض للتغيير، وبينها أيضًا أنّ “الثقة” بالقطاعات النقابية مفقودة أيضًا، مثلها مثل القوى السياسية، التي لا يزال يصرّ بعض “النقابيين” على الدفاع عنها، طالما أنّهم يكتفون بشكاوى “عامة”، واتهامات “عبثية”، لا تدين أحدًا بالاسم، ولا تدعو حتى إلى أيّ “تغيير”.
على الأرجح، لن يكون ما بعد الخميس مختلفًا عمّا قبله، وسيكون “يوم الغضب” الذي طال انتظاره، كأيام “الغضب” النقابية التي سبقته، مجرّد “جولة” في “الوقت الضائع”. لن يكون ما بعد الخميس مختلفًا عمّا قبله، ليس لأنه ينبغي أن يكون كذلك، ولكن لأن الناس التي تتفرّج على انهيار متفاقم، ومنظومة تنازع، وتتمسّك بشروطها لمنع الإنقاذ، ولو عبر التئام الحكومة بالحدّ الأدنى، تعبت وضجرت، ولعلّ هذه بالتحديد مشكلة المشاكل!