يكلّمنا الرب دائماً بلغة الرجاء، فتتعملق شجرة القداسة على أرض لبنان المعذّب والمؤمن في آن، وتمتد أغصانها من بقاعكفرا في قضاء بشري بلدة القديس شربل مخلوف أعلى قرية في لبنان والشرق، الى حردين بلدة القديس نعمة كسّاب في جرود البترون، وحملايا المتنية حيث وُلدت القديسة رفقا الريّس، ثم لحفد الجبيلية مسقط رأس الطوباوي إسطفان نعمة، وغزير الكسروانية التي تجذّر في أرضها الطوباوي يعقوب الحداد الكبوشي، ومنها الى زغرتا بلدة المكرّم البطريرك إسطفان الدويهي وحلتا البترونية مسقط رأس المكرّم البطريرك الياس الحويك، وليس آخراً زحلة حيث وُلد المكرّم الأب بشارة أبو مراد.
شجرة القداسة الوارفة هذه ستظلّل في الرابع من حزيران المقبل بلدة بعبدات في قضاء المتن، مع إعلان إبنيها ليونار عويس ملكي وتوما صالح طوباويين على مذابح الرب و الكنيسة، فمن هما هذان الطوباويان اللذان حققّا رسالة الكنيسة في الشرق التي هي المحبة وعيش الأخوة وصلة الإنسانية حتى الإستشهاد بمجانية تامة؟ وُلد الأب توما صالح وإسمه جريس في بعبدات سنة 1879 وإستشهد في مرعش التركية عام 1917، كما وُلد الأب ليونار عويس ملكي، وإسمه يوسف في البلدة نفسها بعد ثلاث سنوات أي في العام 1881 وإستشهد في ماردين التركية في العام 1915.
لدى قدوم الرهبانية الكبوشية الى بلدتهما بعبدات، إختار الشابان جريس ويوسف مع ثلاثة آخرين من أبناء بعبدات، أن يكونا راهبين كبوشيين مرسلين، فإلتحقا في العام ١٨٩٥، بعد تحضيرهما، بإكليريكية الكبوشيين الصغرى في منطقة سان ستيفانو، إحدى ضواحي إسطنبول، حيث تعلّما مبادىء اللغة الإيطالية المعتمدة في الإكليريكية.بعد دخولهما الإبتداء والنذور البسيطة، أمضيا ست سنوات في التأمل والصلاة والتشبّع من “الروحانية الفرنسيسية” وحياة الأخوة والفقر والطاعة والولاء المطلق لتعاليم الإنجيل والكنسية.وبعد إنهاء دروسهما تمت سيامتهما كاهنين، فزارا بلدتهما بعبدات في العام ١٩٠٦ للمرة الأخيرة قبل الإنطلاق برسالتهما الكهنوتية في بلاد ما بين النهرين، وتنقّلا في مناطق تركية عدة منها ماردين وأورفا وخربوط وديار بكر، حيث عملا في شتى حقول الرسالة من تعليم ووعظ وإعترافات وإرشاد للشبيبة وللرهبنة الثالثة.
وبعد إندلاع شرارة الحرب العالمية الأولى، إستشهد الأب ليونار في ١١ حزيران في العام ١٨١٥ مع قافلة كبيرة من بينهم الطوباوي الأرميني إغناطيوس مالويان، فيما إستشهد الأب توما في مرعش في ١٨ كانون الثاني من العام ١٩١٧ بعد أن خبّأ في ديره كاهناً أرمينياً، فحُكم عليه بالإعدام لكنه توفي من جراء مرض التيفوس والمعاملة السيئة في السجن قبل تنفيذ الحكم.رحلة القداسة هذه بدأت بفكرة التقدّم بدعوى كنسية لتطويب الأب ليونار منذ سبعينيات القرن الماضي، ومع بداية الحرب اللبنانية، سعى الأب الراحل سليم رزق الله الكبوشي، وهو حافِظ أرشيف الرهبانية الكبوشية في لبنان، الى العمل على دعوى تطويب المطران الأرميني الشهيد إغناطيوس مالويان، بتكليف رسمي من بطريرك الأرمن الكاثوليك يوحنا بطرس الثامن عشر كاسباريان.وخلال الأبحاث، تبيّن له أن إستشهاد الأب ليونار لا يقلّ شأناً عن إستشهاد المطران مالويان، لأنهما كانا في المدينة نفسها، وعانيا العذابات والإضطهادات نفسها، وقتلا في القافلة نفسها على يد الجنود الأتراك، ومن خلال ملف المطران مالويان وكتاباته، وأرشيف الرهبنة الكبوشية، بدأت رحلة تلمّس سيرة الأب ليونار. إستعار القتال على الجبهات الداخلية في لبنان خلال الحرب، دفع بالأب رزق الله الى توضيب المحفوظات في صناديق من كرتون ونقلها من دير سيدة الملائكة في بدارو، الواقع على خطوط التماس، الى دير القديس فرنسيس في المطيلب.ومع إستمرار الأبحاث ومرور السنوات، وصلت الدعوى الى خواتيمها مع إعلان البابا القديس يوحنا بولس الثاني المطران مالويان طوباوياً في تشرين الأول من العام ٢٠٠١، فإستنتج المعنيون بأرشفة ملفي الأبوين ليونار وتوما، بأن ما تم الموافقة عليه مع الطوباوي مالويان، يمكن أن تتم الموافقة عليه مع الأب ليونار، ما دفع بهم الى تكوين ملف التطويب، لتبرز لاحقاً شخصية الأب توما صالح، رفيق ليونار، الذي إستشهد مثله في مرعش- تركيا، وإن بظروف مختلفة، لكن لا تقلّ إيماناً وتضحية عن الأب ليونار، من هنا بدأ إعداد ملف الأب توما، ليصدر الملفان في العام 2006 مع نصوص وصور ووثائق، ما شكّل أساساً لما يُعرف ب”positio”، أي الملف الرسمي لدعوى تطويب الأبوين الذي لرفعه الى مجمع دعاوى القديسين، ثم جرى ضم الملفين في ملف واحد بدل تقديم دعويين منفصلتين، واحدة لكل راهب.التحقيق الأبرشي بدعوى التطويب بدأ في شباط من العام 2007، تلاه صدور مرسوم الإعتراف بصحة التحقيق في الأول من تشرين الأول من العام 2020، وبعد موافقة البابا فرنسيس، تم نشر مرسوم الإستشهاد في 28 تشرين الأول من العام نفسه.برنامج الإحتفال، وهو مبدئي وقابل للتعديل، سيمتد على مدى تسعة أيام بدءاً من 28 أيار، وهو يتضمن سلسلة أنشطة من مسيرات صلاة وشموع ومراحل درب الصليب وسهرات روحية ومريمية وريسيتال، أما الحدث الأكبر أي الإحتفال بالتطويب فسيتم في الرابع من حزيران في كنسية دير الصليب في جل الديب، التي وقع الإختيار عليها لضيق ساحات كنائس بعبدات التي سيُقام قداس الشكر فيها يوم الأحد 5 حزيران.