لا شك في أن تعبير مكافحة الفساد في لبنان هو من أكثر التعابير إستعمالًا على ألسنة السياسيين اللبنانيين. فالجميع، من دون إستثناء، يطالبون بإعتمادها لتخليص لبنان من شروره، ويدعون بالتالي إلى إستئصال هذا الفساد من جذوره. وعلى رغم كل ذلك لم نرَ من تجرّأ على ترجمة ما يطالب به على الواقع، ولم نرَ فاسدًا واحدًا وراء قضبان السجون. ما نحن فالحون فيه هو إتهام بعضنا البعض بأن الآخر هو الفاسد. أمّا “نحن” فقد نكاد نكون في إدّعاءتنا أقرب إلى الطوباويين والنساك.
الأقوال شيء فيما الأفعال شيء آخر. نسمع أقوالهم فنفرح، ونرى أعمالهم فيمتلكنا الحزن واليأس إلى درجة أننا لم نعد قادرين على تحمّل هذه الكمّية الهائلة من ممارسة حفلات التيئيس التي تُمارس علينا يوميًا. على مدى عقود من الزمن لم يستطع أحد حتى أولئك الصادقين والمخلصين أن يضع حدّا لهذا الفساد المستشري، والذي دخل في جزئيات الممارسة السياسية، التي قامت على أساس “الشاطر بشطارتو”، حتى أصبحت كلمة سياسة بمفهومها اللبناني مرادفة لهذا الفساد، الذي أصبح “صيتًا” لصيقًا بكل لبناني يرافقه كحقيبة السفر أينما توجّه وأينما ذهب.
فإطلاق الاستراتيجية الوطنية لإصلاح الشراء العام أمس، كان أول مسمار يدّق في نعش الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة من الداخل، وهو يكاد يشمل كل هذه المؤسسات، الإدارية المدنية منها والقضائية والأمنية، من دون أن نغفل أنه لا يزال في هذه الإدارات على تنوعّها موظفون نظيفو الكّف، وهم في أغلبيتهم المعيّنون على أساس الكفاءة، عكس من هم معيّنون من قبل الأحزاب والتيارات السياسية على أساس الزبائنية والمحسوبية والولاء المطلق لهذا الزعيم أو ذاك المسؤول. ففي كلمته في حفل إطلاق هذه الإستراتيجية قال رئيس الحكومة عنا إنها “جزء لا يتجزأ من رزمة الإصلاحات الماليّة الأساسيّة الضروريّة لتحقيق الانضباط المالي والحوكمة المالية ومكافحة الفساد وتعزيز التنافسيّة. وهو من الإصلاحات المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي وقد تكرر ذكره في معظم المحطات والوثائق الأساسيّة مثل توصيات مجموعة الدعم الدولية للبنان، والمبادرة الفرنسية، وتوصيات إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الاعمار وطبعاً مؤتمر “سيدر”.
أضاف: “تشكّل هذه الاستراتيجية نقطة انطلاق لاتخاذ الإجراءات الإصلاحية الضرورية بشكل منسّق بين كافة الجهات المعنيّة على المستوى الوطني، ومع الشركاء الدوليين والجهات المانحة التي أدعوها، إلى مساعدتنا على وضع هذه الاستراتيجيّة موضع التنفيذ بشكل عاجل، وعلى توفير ما تحتاجه مِن موارد ماديّة ومساندة تقنيّة لاسيّما وأنّ دخول قانون الشراء العام حيّز التنفيذ سيكون بعد حوالى ستة أشهر من الآن وهذه مدّة قصيرة جدّا”. فهذه الخطوة هي فعل إيمان بقدرة لبنان على النهوض من كبوته والتغلب على أزماته، ولكن هذا الفعل، الذي يمارسه رئيس الحكومة في أدبياته السياسية، يحتاج إلى الإطار المناسب لكي تصبح الصورة أكثر وضوحًا، ولكي يقترن القول بالفعل. وهذا الأمر لن يتحقّق إذا إستمرّ التجاذب قائمًا على مبدأ التنافسية بمفهومها السلبي، وإعتماد سياسة التراشق بالتهم وتبادلها. ما هو مؤكدّ وثابت أن المنظومة السياسية هي المسؤولة عن وصول البلاد إلى ما وصلت إليه من حال إهتراء، ولكنها في الوقت نفسه مطالبة بأن تغيّر مساراتها، خصوصًا أن الزمن هو زمن إنتخابات، وإن كنا نميل إلى تحميل الشعب جزءًا كبيرًا من مسؤولية الفساد السياسي، بإعتبار أن من يمثّلهم اليوم في الندوة البرلمانية هم نتيجة عدم إختيارهم “صح”. فإذا أراد اللبنانيون أن يبدأوا بهدم جدار الفساد فما عليهم إلاّ أن يختاروا ممثليهم في 6و8 و15 أيار على اساس إختيار من هو قادر على حمل معول الهدم.