قبل فترات سابقة، كان البعضُ يراهنُ على “انكسار الجرّة” بين رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط والرئيس سعد الحريري. فمن كان يسمعُ ويقرأ الخطابات “غير الودية” بين الطرفين، إنّما كان يقول في لحظتها: “إنكسرت الجرة بين سعد ووليد، والتغيير كبير”.
حينها، كانت الظروف مختلفة تماماً، وبشكل أدق كانت ترتبطُ بعملية تشكيل الحكومة العام الماضي، عندما كان الحريري رئيساً مُكلفاً. أما اليوم، فإنّ الاتجاهات اختلفت، وبات الوجود المصيري على المِحك.
وسط هذا المشهد، قرر جنبلاط “الإنتفاض” من أجل الحريري، “الحليف التاريخي، ناسفاً “القطيعة” التي حصلت بينهما سابقاً، ومتناسياً “حرب الكلام” التي برزت على خط العلاقة بين الطرفين.
ما يُمكن قوله في هذا الإطار هو أنّ الحراك الجنبلاطي بشأن الحريري ينبع من مخاوف جديّة عميقة، أساسها أن وجود الأخير السياسي بات مرهوناً بالانتهاء بعدما لم يتبلور موقفه النهائي بشأن كيفية خوض “المستقبل” للانتخابات النيابية المقبلة.
في زيارته بالأمس إلى بيت الوسط، حمل جنبلاط رسالتين إلى الحريري: الأولى وقد باتت معروفة، وتحمل تأكيداً على أهمية خوض “المستقبل” الانتخابات والبقاء على الساحة السياسية والسّنية. أما الرسالة الثانية فكانت في التأكيد على أن “الإشتراكي” لن يتخلى عن “التيار الأزرق” مهما كانت الظروف ومهما كان المشهدُ الانتخابي. وبين هاتين الرسالتين، كانت هناكَ مضامين رسائل أقوى وأعمق تنكشف في الخلفيات.
في الواقع، فإنّ ما أفرزته زيارة جنبلاط إلى الحريري إنّما يُشكّل امتداداً لموقف سياسي عريض حول الأخير، حظي منذ عودته، الخميس الماضي، على دعمٍ مُطلق من مختلف الأفرقاء، وتبين أن هناك رهانا كبيرا على بقائه ضمن المعادلة، إلا أن ذلك يمكن أن يكون مرهوناً بشروط.
بالنّسبة للعديد من الأطراف، فإنّ انكسار “المُكوّن السني” الأوّل في لبنان إنما يعدّ ضرباً للتوازنات، في حين أنّ “الإشتراكي” حذر مراراً عبر مسؤوليه خلال الساعات الماضية، من أن غياب “المستقبل” سيفتح الباب أمام بدائل مُتطرفة. وفعلياً، فإن ما يريده جنبلاط بشأن الحريري ليس عادياً، ويتبين تماماً أن هناك خشية واضحة من أخذ الطائفة السنية إلى أماكنَ غير محسوبة في ظل تنامي جماعاتٍ عديدة في أوساطها. وهنا، يُطرح السؤال الأساس: ما هي الرسائل الخفية وغير المباشرة التي أراد جنبلاط تأديتها عبر بوابة الحريري؟
بعيداً عن أهمية التوزانات السياسية للحفاظ على الإستقرار، وبمعزل عمّا إذا كان جنبلاط قد استطاع تغيير رأي الحريري ودفعه للقبول بالمشاركة بالانتخابات أم لا، يبدو واضحاً أن رئيس “الإشتراكي” لا يتقبل خسارة شريكٍ سني مثل الحريري، استطاع معه خوض معارك عديدة في السابق، وتمكن من خلال تياره من الحفاظ على وجودٍ سياسي أساسي بمنطقة الشوف. وعليه، فإنه انطلاقاً من هذه القاعدة الأولى، يمثل التمسك الجنبلاطي بالحريري مُنطلقاً لتثبيت الأخير سياسياً أقله في دائرة الشوف – عاليه، باعتبارها العرين الأساس للتحالف الجنبلاطي – الحريري منذ زمن ما بعد الطائف، وما غياب تيار “المستقبل” سوى ضربٌ للتوسع الانتخابي الجنبلاطي ضمن مناطق إقليم الخروب والشوف الأدنى.
إضافة إلى ذلك، فإن ما يتبين هو أن جنبلاط “لا يأمنُ” أبداً لأي جهات سنية أخرى ترى نفسها فاعلة في الميدان الانتخابي “في منطقته”. كذلك، فإنّ زعيم “الإشتراكي” لن يستطيع التسليم بتحالفٍ ثابت ودائم أساسه جماعات دينية محدودة الانتشار مثل “الجماعة الإسلامية”، إذ أن تمثيلها ليس واسعاً كما أن النظرة إليها مختلفة تماماً عن النظرة لـ”تيار المستقبل”. فبالنسبة لجنبلاط، فإنّ هذه الجماعات ليست عناصر أساسية لتحالف مستمر.
مع هذا، فإنّ تمسك جنبلاط بالحريري إنّما يرتبط مباشرة بأمور تتعلق بجبهة سياسية واحدة ضمن البرلمان. ومن وجهة نظر “الإشتراكي”، فإنّ غياب حزب سني قوي في صفه داخل مجلس النواب، إنّما يساهم في ضرب المناصفة ويفتح الباب أمام قوى أخرى لتجيير النواب السنة الآخرين المستقلين نحوها، وبالتالي خسارة كتلة وازنة تغرّد في سرب “الإشتراكي” ومن معه.
وما لا يخفى على أحد أيضاً هو أنّ الإصرار الجنبلاطي على بقاء الحريري إنّما يعتبرُ مدماكاً أساسياً في معركته ضد “النفوذ الإيراني” في لبنان. وبذلك، فإن غياب “المستقبل” عن الساحة، إنما سيكسرُ عناصر القوة في تلك المعركة، في حين أن المخاوف كبيرة من تمدد جماعات محسوبة على محور “الممانعة” في العمق السني أكثر من أي وقتٍ مضى.
وسط هذا، فإن تنازل جنبلاط عن خيار الحريري إنما يعتبرُ تنازلاً عن حليف أساسي في القرارات الداخلية، خصوصاً تلك التي ستتخذ مع استحقاقات أساسية مثل الاستراتيجية الدفاعية وانتخاب رئيس للجمهورية.
في الخلاصة، فإنّ جنبلاط يرى الأمور من اتجاهات مختلفة، في حين أن القرار لدى الحريري هو الحاسم، ومن الممكن جداً أن يعلن غداً الإثنين، ترك الخيار لتيار “المستقبل” لخوض الانتخابات تحت شعار حماية الطائفة السنية من أي عناصر متطرفة قد تهزها أو تدخل فيها، وهذه ورقة ستكون رابحة في ظلّ الوضع القائم يمكن أن تشكل ارتياحاً لمختلف القوى المؤيدة للحريري وأيضاً المناوئة له.